الجمعة، 20 يونيو 2008

اللباس الليتورجيّ في الأنتروبولوجيا

الإثنين 31 آذار 2008
الساعة الخامسة مساءً في قاعة المؤتمرات في الجامعة

نعلم أنّ «الطقوس قوّةٌ ملزمةٌ تضغط على الفرد، وذاتُ وظيفة تقوم على تعزيز اللحمة المجتمعيّة». الطقس هو الأساس في أية عملية انتمائية وحفظ للهوية والذات الإجتماعية والإفتخار بالجماعة وعظمة تاريخها وتقاليدها ولبسا ومأكلها وفولكلورها وثقافتها وتراثها الحضاري وجمال بيئتها وجغرافيتها وفرادة رسالتها الحضارية والإنسانية وعظمة آلهتها واناسها. «الفن في خدمة الإحتفال» (كما ورد في الإرشاد الرسولي «سر المحبة» ص.ص. 60-62، 2007)
البحث يتركّز على الأصول والجذور والوظيفة وليس عمّا تراكم حولها من شروحات ورموز، وما أعطي لها من معانٍ وشروحات.
وهذه الطقوس يرافقها شعائر معيّنة وأناشيد ورقص وحكايات وتماثل وتماهٍ مع المعبود أو مع الذي تُقام له الإحتفاليّة. ويرافق كلّ هذا لباس وأدوات وأقنعة وصولجان وقصب وريش وصفد وعظام وأنياب، أو ما يُسمّى زينة الإحتفال، أو الثياب المناسبة للإحتفال أكان تذكاريّا: موت وانبعاث الإله، أو الإستعداد للحرب، أو لحفلة صيد، أو رحلة في الأدغال والبحار، أو الإستعداد لعرس، أو زفاف أو إقامة مراسم موت، أو عزاء، أو طقوس استسقاء، أو قطاف، أو طرد أرواح وسواها.
لا يتمّ شيء في حياة الناس العاديّة أو غير العاديّة، المألوفة أو الخارجة عن المألوف إلاّ ضمن أطر طقسيّّة تؤطّرها المحرّمات والممنوعات والتابوهات، أو تسيّرها المسموحات والمقبولة، أو تقمعها وتبطش بها الضواغط الروحيّة والإجتماعيّة والثقافيّة، حاملةً الويلَ والعقابَ أو البركةَ والثوابَ لمن يقوم بهذه الطقوس.
من الطريقة العاديّة للسلام بين الناس، أو إلقاء التحيّة، إلى طريقة الأكل واللبس، إلى طقوس دفن الأموات وطريقة إقامة الأعراس، إلى الإحتفال بعيد ميلاد، إلى التهنئة البسيطة بالنجاح أو بالتعزية. كلّ شيء له مفاعيله، وله أصوله، وله طقسه، وله لباسه وله طريقة وشعائر ممارسته.
الطقس يعبّر عن الأبعاد الإيمانيّة والروحيّة واللاهوتيّة لحياة الجماعة. إنّه الجسر الذي يعبر عليه الماورائيّ الى المرئيّ، واللامنظور الى المنظور بعلاقة الآلهة مع البشر، وبطريقة احتفاليّة تتمّ بالتذكارات والاحتفالات والأعياد. إنّه الإرتباط بقوّة أعلى منه. الإنسان لا يعرف الله في ذاته بل يعرفه في تمظهره وكشفه من خلال كلّ الرموز الطقسيّة والدورة السنويّة للأعياد.
الدوافع الكبرى هي الإتّكال على الله أو على هذه القوّة الحامية، المعتنية، الحافظة. الانسان لا يُطيق إطباق حدود الكون الضاغطة عليه. هذا الفرد التائه والعرضة للمرض والموت والجوع يبحث في قعر ذاته عن معنًى لوجوده، وعن دوافع للفرح والرجاء والبقاء. يحلم بالبقاء، يتوق إلى السماء فيقيم طقوسَ الموت والحياة التّي تجعله يصرع العدم، لأنّ الألوهة صفة أساسيّة من صفات الإنسان، ولا يبقى الانسان في الغربة ووحشة الوجود.
أهمّ أفق لهذه الطقوس هو الرجاء، الرجاء. بالخير والأفضل، بالسلام والرفاه الانسانيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ. لا يجب أن نجهلَ الإرثَ الأخلاقيّ والروحيّ والدينيّ للشعوب وإلاّ اقترفنا جريمةً بحقّ الثقافة. اقتلاع الجذور هو فقدانٌ للمعنى، وإضعافٌ لرباط الهويّة والإنتماء، لذلك علينا أن نقيم رباطاً قويّاً مع مسيرة ثقافتنا.
الذي يهمّ هو هذه الحاجة العميقة إلى ايجاد معنًى للوجود وللحياة. هذه الطقوس تُجيب على الأسئلة الجوهريّة للكائن البشريّ حول معنى الحياة ولغز الموت. التطلّع هو بُعدُ يتجاوز لغزَ المادّة وحاجات الحياة. إنّه نداء الرجاء. الطقس يحقّق نداءات الرجاء والفرح. هذا الرجاء يقول إنّ اللامتناهي هو الوحيد الذي يكفيه والذي هو الجوهر، ولا يمكن انتظاره من السلطات السياسيّة والإقتصاديّة. الفعل الروحيّ هو ميل طبيعيّ لجميع البشر الى البحث عن تسامٍ ما.
في بحثنا، سنتوقّف فقط على درس لبعض الملابس الطقسيّة. لن ندرسَ جميع الملابس وجميع الأدوات في رمزيّتها ومعانيها و«ليشيّاتها»، أو ليش هيك؟ أو «لمذا هذا»؟
سأنطلق من المدارس الأنتروبولوجيّة التي حاولت أن تقدّم لنا، وكلٌّ منها وجهة نظرها، مقاربة خاصّة لشرح الظواهر الإجتماعيّة والمكونّات الثقافيّة والنفسيّة لكلّ مجتمع انطلاقاً من مفاهيمه للحياة والموت، ومن ارتباطه ببيئته ومحيطه الجغرافيّ والثقافيّ، وتواجده على معابر الطرق والأنهار ومرور القوافل والغزوات والأمطار، أو من انعزاله في جبله أو عمق أدغاله وصحرائه.

القسم الأول

بين المدارس الأنتروبولوجيّة، نرى في المدرسة الإنتشاريّة الجوابَ الذي يقول إنّ عنصراً من عناصر الثقافة ينتقل من مجتمع إلى آخر، ويصبح مكوّنا أو بنية من ذات ذلك المجتمع. وهذا الإنتشار ينتج من سبب الغزوات الثقافيّة أو الحربيّة، أو انتقال جماعة من بيئة الى أخرى بسبب الهجرة، أو السعي لعيشٍ كريمٍ وحرٍّ، وكما يقول هركوفيتس: «الندرة والإصطفاء (مدخل الى علم الأنتربولوجيا، ص 324).
يحدث هذا الإنتشار تحت ضغط الإحتكاك الإجتماعيّ، وبدوافع الجاه والنخبويّة أو تحت القمع السياسيّ والدينيّ والفنيّ والثقافيّ وسواها.
أمّا في المدرسة البنويّة بخاصّة مع لِفي ستراوس، فإننّا نجد تحت تراكمات البنى اللغويّة والعادات والتقاليد والأساطير و«الميتة»، والنَي والمسلوق، بنيّة أساسيّة عليها نسجت، وعند كلّ الشعوب، وبطريقتها الخاصّة، واختباراتها الذاتيّة، قصّة واحدة لبنية واحدة تفرّعت وتنوّعت من الخلق، إلى النهي، إلى العصيان، إلى العقاب، إلى التوبة، إلى الخلاص.
«اعتمدت المدرسة الانتشاريّة اعتماداً مبالغاً به، على ما يقول: (ج. بوارييه) (النياسة العامّة، ص 46)، على مسلّمات، «فالمسافة الجغرافية، لا أهمية لها بالنسبة للانتشار، مهما كانت كبيرة». ونادراً ما تنظر الانتشاريّة الى الانسان باعتباره خلاّقاً ومبدعاً. ويتلّخص تاريخ البشريّة، والحالة هذه، بسلسلة من الاستعارات الثقافيّة، انطلاقاً من بؤر معيّنة تولّت بثّ الحضارة ونشرها. لقد شاعت هذه الأفكار واستمرّت وقتاً طويلاً في المانيا، ثم في انكلترا، أكثر من استمرارها وشيوعها في الولايات المتّحدة. وقد دأبت المانيا بشكل خاصّ على التوسّع بالنظريّات الانتشاريّة بسبب الدور الذي اضطلعت به بعض المؤسّسات، كمعهد انتروبوس، الذي شكَّلَ امتداداً لأفكار غرابنر، وخصوصاً لأفكار الأب فلهلم شميث (1808-1954) الذي أنشأ مدرسة فيينّا هو وتلامذته. وكان شميث أميناً لأفكار مدرسة «الدائرة الثقافيّة»، فضلاً عن أنّه ناهَضَ أفكار التطوّرييّن الذين ذهبوا، كتيلور مثلاً، إلى أنّ التوحيد لا وجود له البتّة لدى البدائييّن، وسعى بدراساته حول «البيغمة» الإفريقيّين إلى إقامة البرهان على أنّ أقدم الأقوام الغابرة التي تعيش من القنص واللقاط كانت بلرغم من ذلك على معرفة مُبكرة بالإله، وقلّما كانت تؤمن بالطوطميّة والسحر. فقد كان يرى أنّ فكرة الإله الأكبر موجود منذ بداية البشرية» (مدخل الى الأنتروبولوجيا، ص 129-130).
أمّا المدرسة الوظائفيّة، لاسيّما ريكليف براون وتلميذه Malinowski، وهذا ما يهمّنا في دراستنا، فهي المدرسة التي تقول إنّ لجميع البنى الإجتماعيّة والحالات الثقافيّة، والطقوس، والشعائر، والكلمات وظيفة محدودة تعطيها الحياة، طالما أنّ المجتمع يتعامل معها. لكنّها تأتي أيّام لا تعود لهذه الشعائر والطقوس حاجة، فتسقط وتموت ليقوم مكانها شعائر وطقوس بديلة تلبّي حاجة المجتمع.
وكانت هناك حركات تفكيكيّة وتركيبيّة، تعرّضت لها المجتمعات التقليديّة (مدخل إلى الأنتروبولوجيا، جاك لمبار، ترجمة حسن قبيسي، المركز الثقافيّ العربيّ، 1997، صفحة 313).
لذلك، علينا المقاربة الشاملة، كما قال جورج غورفيتس الذي «أصرّ على عرضيّة البنية ووقتيّتها».
Dictionnaire des Ethnologues et des Antropologues, Gérard Gaillard, Ed. Armand Collin, Paris 2002, pp. 138.
Claude Rivière, Introduction à l’Anthropologie, Hachette, Paris, 1999.
نظراً لأنّ الواقع الإجتماعيّ لا ينفكّ عن التجدّد عبر تلك اللعبة الدائمة التي تقوم على التركيب والتفكيك وإعادة التركيب. وهذه التغيّرات، التّي تنقطع، تظلّ محكومة بواقع الحياة المجتمعيّة نفسها، الذي يقوم على التوتّرات والخلافات والنزاعات (مدخل إلى الأنتروبولوجيا، ص 313-314).
الندرة والإصطفاء
الإنسان بحاجة الى التزوّد بالوسائط الضروريّة لحاجاته، وهذه نقطة مؤسّساتيّة بين الانسان ومحيطه كما يقول بولانيي (مدخل صفحة 324).

«البدائيّ» ليس هو الحقل أو الميدان الحصريّ للدراسات الأنتروبولوجيّة، بل أصبحت الأنتروبولوجيا اليوم تدوس على المجتمعات وأنماط الفكر والمعتقدات والثقافات فهجرت الأنتروبولوجيا الحقل البدائيّ، واتّجهت الى ما هو إنسانيّ، ولم تعد دراسة المجتمعات الفرديّة في الأرياف التقليديّة أو الطوائف المنعزلة، الغريبة والبعيدة و«الأجنبيّة» المتجانسة، حيث تطفي العلاقات المباشرة والقرابية، وحيث لا تزال التِقَنِيَّات على بساطتها بل هي تهتّم أيضاً بالجماعات المدنيّة أو الطوائف الإثنيّة أو الدينيّة وجماعات الجوار والحيّ (مدخل إلى الأنتروبولوجيا ص 11). هناك حقول هامّة، منها الألعاب، الموسيقى، الرقص، اللغة، السكن، القرابة، الإقتصاد، السياسة، الدين، والقيم.
المجتمعات ثابتة نسبيّاً على وضع معيّن، لكنّها تخضع للديناميّة وللحياة وللتغيّر. هناك ثابت، وهناك متحوّل. هناك عناصر مقدّسة لا تُمَسّ، وهناك ظواهر متبدّلة متغيّرة، لا تَمُسُّ الجوهر، بل تتكيّف مع الزمن والثقافات والتحوّلات، يستطيع المجتمع معها أن يبقى ويستمّر. الخصوصيّات تبقى وتسمح للمجتمع أن يحفظ ذاته وشخصيّته وهويّته وانتماءه بِقَدْرِ مرونته وقبوله التبدّل للعارض العابر الذي لا يُمسّ في جوهره. فهو لا يُقدِّسُ ما لا يُقدَّس. ولا يُدَنِّس الأساسيّ والجوهريّ. إذا جهل الفواصل بين الأزمنة المقدّسة والأمكنة المقدّسة والرموز المقدّسة من أدوات وثياب ولباس وشعائر، وبين سواها من العوارض المتغيّرة
«فـرازر هو أوّل من أشار في كتبـه خصوصاً إلى الطوطميّـة والزواج الخارجيّ (1910) والفولكلور في العهد القديم (1918) وبخاصّة في كتابه الضخم «الغصن الذهبيّ» الذي بلغ اثني عشر مجلد، وصدر تباعاً بين (1890-1915). وهو كتاب قد وصفه مؤلفه بأنّه «جردة بفكر الانسان، تتابع مراحل تطوّره ابتداءً من السحر والدين، وصولاً إلى العلم». اتّخذ فرازر موقفاً معارضاً للنظريّات الكبرى، وضَمّنَ كتابه مجموعة هائلة من الوقائع التي استقاها من مجتمعات شديدة الاختلاف، وعالج هذه الوقائع من زاوية المنهج المقارن. فتطرّق تباعاً الى موضوعات السحر والطقوس الزراعيّة والاحيائيّة، وعالج بشكل خاصّ أصول ظاهرة «كبش المحرقة»، وهي عبارة عن معتقد يُمَكّن أصحابَه من تحويل كلّ القوى الشرّيرة والمعاصي كافة التي ارتكبتها الطائفة الواحدة، وتحميل وزرها لفرد واحد يفتدي الطائفة بموته المصطنَع. كما كان فرازر أوّل من أشار إلى أنّ شخص الملك يرتدي بالأصل طابعاً مقدّساً، وأنّ الأصل المذكور رمزيّ أكثر ممّا هو سياسيّ. وذلك عبر دراسته «للملك الإلهيّ»، وهي عبارةٌ أراد بها التذكير بأنّ هذا الملك كان رجلَ دينٍ بالدرجة الأولى، وحامياً وراعياً للطائفة، ووسيطاً بين البشر والآلهة، أكثر ممّا هو عاهل أو ملك. وبما أنّ الشخص المذكور كان بمثابة الضمانة لازدهار أحوال شعبه، بقدراته الروحيّة وحيويّته الجسديّة، فإنّ أدنى مساس بهذه القدرات وهذه الحيويّة، إمّا عن طريق المرض أو عن طريق الشيخوخة، يُعتبَرُ ايذاناً بانتقال البلاد بأسرها إلى طور الضعف والوهن. فيُفتَرَضُ والحالة هذه التخلّص منه عن طريق قتله أو انتحاره. ويبدو أنّ هذه الممارسة وهذه النظرة إلى الملك، بما هو رجلُ دينٍ وراعٍ وحامٍ كانت في أصل [مؤسّسة] المَلَكِيَّة التي تحَوَّلت بعد ذلك الى سلطنة. علماً بأنّ هاتَين المؤسّستَين كانتا لا تزالان قائمتَين في القرن التاسع عشر لدى بعض المجتمعات الإفريقيّة».
«إنّ مساهمة فرازر الأساسيّة كانت نظرّيتّيه في السحر وفي تطوّر المجتمعات عبر المراحل المتتالية: سحر، دين، علم. فقد اعتقد الانسان في بداية الأمر أنّ بوسعه السيطرة على الطبيعة، ثمّ تبيّن له بعد ذلك قصوره وضعفه، فاتّكل على الآلهة وفوّض أمره إليها. ثمّ تمكّن في النهاية من السيطرة على الطبيعة، لكنّه عرف حدود هذه السيطرة. وهذا ما حدا بفرازر الى التمييز بين الدين والسحر. فالسحر، برأيه، ضرب من البصيرة او العلم المسبق، ضرب من العلم المزيّف، يعتمده اصحابه على سبيل التعامل مع الطبيعة وأخطارها بغية تدجينها. وفي سياق بحث الانسان عن علاقات الأسباب والمسبّبات، أخذ يسعى لإيجاد قوانين. لكن هذه القوانين ما هي في الواقع إلاّ وهم خيال. رغم ذلك فقد اعتقد بها واعتمدها في بادىء الأمر. وأهمّ هذه القوانين اثنان: «قانون التماثل» و«قانون التماس» أو«العدوى». هكذا لا بدّ للشبيه من أن يولّد شبيهه: فتصوير الحيوان الجريح بفعل سهم من السهام على جدران كهف من الكهوف من شأنه أن يجعل رحلة القنص في اليوم التالي مثمرة وناجحة. كذلك الأشياء التي تتماسّ في ما بينها: فهي تستمر في التأثير بعضها على بعض، وهذا هو السحر المسمى بالسحر «التعاطفي»، وهو الذي يمكّن متعاطيه من استخدام شيء من ممتلكات أحد الأشخاص أو جزء من أجزاء جسده (كأظافره أو شعره، إلخ.) ضدّ هذا الشخص بالذات.
فالساحر يُسيطر على الطبيعة، أو يعتقد أنّ بوسعه السيطرة عليها، وهو لا يتوسّل الى ذلك أيّة قوّة غيبيّة. لكنَّ الانسان توصَّل في النهاية إلى الاعتراف بعجزه وقصوره تجاه قوى معيّنة لا مثيل لها بالسيطرة عليها، فعزا أسبابها للآلهة، وكان الدين. والحالة هذه، عبارةٌ عن مصالحةٍ مع القدرات العليا [...] التي يُفترَض بها أنّها توجّه الأحداث الطبيعيّة والبشريّة وتتحكّم فيها».
الفرق بين الدين والسحر هو أنّ الدين «يتعاطى مع بعض الفصائل الأساسيّة التي تحكم الوجود البشريّ»، في حين أنّ السحر يتّجه صوب تفاصيل المشكلات عن مواضيع الآخر، شأنها في ذلك وفي العلم الذي يرى فرازر أنّه يفرض نفسه ومنطقه، عندما يدرك الانسان أنّ هناك تجانساً وتشاكلاً في الظاهرات الطبيعيّة، وأنّ هناك نسقاً فعليّاً، وأنّ انتظامَ هذه الظاهرات لا يعني أنّها ليست خاضعةٌ لإرادة الآلهة وأمزجتها.
صحيح أنّ هناك من عرّف الدين من حيث تعارضه مع السحر. فعارض بين الجانب الرسميّ والجماعيّ من الدين (طوائف، كنائس)، وبين الجانب المتستّر والفرديّ من السحر. فالسحر يسعى إلى السيطرة على الطبيعة، ويرمي إلى تحقيق غايات خاصّة (زراعة، محاصيل، صيد، حِرَف، مداواة...)، بينما يقتصر الدين، من حيث خضوعه للقدر، على إشاعة الطمأنينة في نفوس الناس حيال أسرار الحياة، وحيال خشيتهم من الموت. علاقة الإنسان بالآلهة شأن مقدّس. والدين بوصفه شأناً مجتمعيّاً، هو قوّة مُلزِمَة تضغط على الفرد، وذات وظيفة تقوم على تعزيز اللحمة المجتمعيّة.

القسم الثاني:

مقدّمة:
ينطلق تفكيرنا إلى أبعد من اليهوديّة والمسيحيّة والاسلام، في أبعادها الطقوسيّة، واحتفالاتها الدينيّة، وشعائرها الرمزيّة التي تُمظهر تقيّدَها وانتماءها إلى محيط جغرافيّ تميّز بالبعد الصحراويّ وبنوع محدّد من الطقوس الزراعيّة والحياة الحيوانيّة، والنظر إلى سماء صافية محدودة لا تغلّفها الغيوم والضباب، بل تضيء فيها النيّرات والنجوم، وتبسط عليها الشمس، ويملك عليها القمر. قراءتنا تنطلق إلى الحضارة الإنسانيّة، وثقافة الشعوب بطريقة تتخطّى الجغرافيا المكانيّة، والثقافة المحلّيّة، والمورثات الفكريّة، لتذهب إلى المنطلقات التأسيسيّة لهذه الأنواع من الملابس والآنية والأدوات مع رموزها الطقسيّة ودلالاتها الحضاريّة والثقافيّة والدينيّة والفنّيّة وارتباطها، بالبيئة والجغرافيا، وبمؤسّساتها الإجتماعيّة.
وظيفة الثياب هي أوّلاً لاتّقاء الحرّ والبرد وستر الجسد وحمايته من الرمل والثلج والشمس. لذلك، نحن نقول إنّ الحجاب وغطاء الرأس والعمامة لا وظيفة إلهيّة لها، إنّما لها وظيفة طبيعية للحماية والوقاية، ولا معنى سماويّ بل هي لإبعاد المخاطر والشهوات والغرائز. أمّا المعاني التي أُعطِيَت لاحقاً، وصارت من المحرّمات والفرضيّات الإلهيّة والاجتماعيّة، فهي تحصينٌ للمقولات الطبيعيّة والاجتماعيّة. والثقافة بمقدّس التي يعطيها قوّة الحقّ الإلهيّ والممنوع السماوي لحماية الحياة والمجتمعات. بعد ذلك، تهدر فيها أنهار الرمزيّة، وخصوبة الدلالات والمعاني. في ذاتها، لا معنى مقدّساً لها، بل هي علامة روحيّة اجتماعيّة دينيّة لمركز ودور وجنس من يرتديها.

«Le pénis de l’homme possède apparemment la même valeur socio-sexuelle que celui des primates. W. Wickker raporte plusieurs cas où l’érection accompagne chez l’homme, des états émotionnels violents, comme la colère, l’agressivité ou la menace.
Le pénis joue aussi, chez l’homme, le rôle de sentinelle. Lorsqu’on compare la position assises des homes et des femmes, il apparaît que l’homme s’assied généralement comme s’il voulait rendre apparents ses organes génitaux que dissimulent cependant ses vêtements.
De nombreuses peuplades primitives utilisent divers ornements ou étuis péniens pour accentuer la taille ou la couleur de leurs organes génitaux. Le pénis en érection, même stylisé, a toujours symbolise la puissance, la force. On a, depuis longtemps, établi des rapprochements entre la forme du pénis en érection et les épées, les sceptres, etc. (Malgré des sortes d’armures de cuir et de métal, les hoplites grecs combattaient les organes génitaux dénudés).
Nous pouvons retrouver de nombreuses traces de ce comportement des primates dans les traditions de diverses peuplades. On rencontre dans plusieurs pays du monde des bornes qui ont soit la forme d’un pénis en érection, soit la forme stylisée d’un homme dont seule la tête et les organes génitaux sont fidèlement représentés. Il est intéressant de préciser que ces sortes de bornes phalliques qu’on trouve à l’entrée des villages mexicains, à la porte des temples hindoux devant les maisons amazoniennes sont toujours tournées vers l’extérieur. Elles sont là, disent les habitants pour protéger le village ou la maison contre les esprits mauvais».
Au-delà de sa fonction de protection, assurée de façon variable (les Fuégiens subissent un climat analogue à celui supporté par les Eskimo ne portent qu’une cape de peau), d’une expression éthique de pudeur, d’une manifestation érotique, le vêtement renvoie aux systèmes culturels qu’il signifie. Code, il permet aux individus de communiquer à travers la perception claire des vêtements-signés. R. Barthes: «Modes et Sociétés», in Echanges (août 1966), declare «Le port d’un vêtement est profondément un acte de signification donc un acte profondément social installé au cœur même de la dialectique des sociétés».
الملابس التي ليست هي كملابس سائر الناس، هي علامة التمّيز والفصل والتكرّس والسلطة والوظيفة والهويّة والانتماء الاجتماعيّ والدينيّ. من هنا، نَقول: إنّ هذه الملابس والثياب وُجِدَت مع وجود البشريّة. وتمّيزت خدمة الآلهة والكهّان بلبسها، حتّى إنّ تلامذة فيتاغوروس كانوا يرتدون اللباس الأبيض (الخوري ناصر الجميّل، الرموز المسيحية، ص 55).
أمّا البياض في اللباس فهو علامة الطهارة والنقاء والمجد (رؤيا 4/4) هذا البياض هو لبس ملاك الربّ، وهو ما يرتديه المسيح في مجده، وعند تجلّيه. وهو لباسُ وليمة الحمل (رؤيا 19/9).
هكذا هو هذا البياض في ثوب العماد، إنّه علامة الحياة الجديدة والفرح والنقاء والنصر ولبس المسيح الجديد القائم من القبر، كما ورد في غلاطية (3/27) «أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم، المسيح قد لبستم».
اللباس دلالة الإنتماء الإجتماعيّ وعلامة السلطة، أو المقام، أو الاحتفال الطقسيّ أو المشهديّة الجماعيّة في الأعياد والمناسبات. في (الفصل 21/10) من سفر الأحبار، نجد ما يلي: «أمّا عظيمُ الكهنة بين إخوته والذي صُبَ على رأسه زيتُ المسحة، وكُرِّسَتْ يدُهُ ليلبس الثياب، فلا يهدِلَ شعرَه، ولا يمزّق ثيابه...». فللكاهن، في العهد القديم، ثياب ليتورجيّة ورد وصفها في مواضع عدَّة، منها في سفر الخروج (الفصل 28: 40-43): «لِبَني هارون تصنَعُ أقمصةً وزنانير، وتصنعُ لهم قلانسَ مجدٍ وبهاء... وتصنع لهم سراويلاتٍ من الكتّان لتغطّي عُريَ أبدانهم، من الحقَوين الى الفخذَين»... و(29: 5-9): «وخُذِ الثيابَ وألبسْ هارون القميص وجُبَّة الأَفود والصُدرَة، واشدُدْه بوشاحِ الأَفود. وأجعل تاج القدسِ على العمامة...».
كهنة العهد القديم يتميّزون، كما يقول الخوري ناصر الجميّل «بارتداءِ ألبسةٍ طقسيّةٍ (خر 28: 40-43) من الكتّان (حز 44: 17). بينما يكون لباس الأنبياء من الشعر والجلد، أي من مصدر حيوانيّ (2 ملوك 1: 8؛ متى 3: 4). أمّا تمزيق الثياب فيُشيرُ إلى الحزن والغضب (متى 26: 65) (الرموز المسيحيّة ص 56).
مما جاء في كتاب القدّاس المارونيّ وفي مقدّمة المطران بطرس الجميّل في الصفحة 54 «يرتدي الكاهن قميصاً ومنصفة وبطرشيلاً وزناراً وغفارة...». ويُضيف: «من الضروريّ أيضاً، العودة في اللبس الكهنوتيّ إلى التقليد السريانيّ، الأنطاكيّ، ليس فقط للحَبر بل للكاهن والخدّام أيضاً. ومن الضروريّ أيضاً استخدام الشارات الحبريّة الشرقيّة، على أن تُستَبدَل عصا الرعاية الغربيّة بالعصا الشرقيّة المعروفة بالرمّانة يعلوها صليب. كما أنّ الموضوع مطروح بالنسبة إلى التاج الأسقفي الذي هو من الغرب ومطروح أيضاً استعادة الأمونوريوم الذي يتوشّح به الأسقف ليمّيزه عن الكهنة، كما في سائر الطقوس الشرقيّة. ومن المطلوب أيضاً توضيح ألوان الثياب الطقسيّة بالنسبة إلى مراحل السنة الطقسية والأعياد».
لنأخذ هذه الملابس، ونفكّر بوظيفتها والحاجة إلى مدلولاتها ورموزها، انطلاقاً من المدارس الأنتربولوجيّة التي تكلّمنا عنها سابقاً: الإنتشاريّة، الوظائفيّة، البنيانيّة، التحليليّة النفسيّة، وسواها من المدارس. آمل ألاّ أُتَّهم بالكفر والزندقة وعدم الإيمان وبأننّي أدنّس ما هو مُقدّس، وأبتذِل ما هو مُحرَّم، وأمسُّ «تابوهات» تحمل قوّة الرموز المقدّسة العابرة لتحوّلات الزمن ومتغيّرات الأيّام في استمراريّة احترام الجماعة وتكريسها لطقوسها وشعائرها وآنيتها وأدواتها ولبسها المقدّس، في الأزمنة المقدّسة والمساحات والمسافات المقدّسة المشحونة والمتفجرّة بالأبعاد الروحيّة والتقويّة.
القضيب أو العصا.
القضيب أو La verge أو La canne les épées, les scepters, بالفرنسيّة، إنّه بمعناه الأوّل يدل على العضو الذكريّ، وهو دلالة الخصوبة والقوّة والرجولة، في دلالات تكلّم عليها فرازر: إنّها الحماية والرعاية والسلطة والملوكيّة والأولويّة. القضيب أو La verge، إنّه «عصا الرعاية»، ودلالة القوّة والسيطرة، وفي أعلى العصا أو القضيب رموز جنسيّة واضحة، وهي رموز الموت والحياة متجسّدة في مجسّمَي الأفعى. أمّا، الخوري ناصر الجميّل فيقول في كتابه الرموز المسيحية (صفحة 61): ترمز العصا التي يحملها الأسقف أو الرئيس العامّ للرهبانيّة، إلى القصبة التي جعلوها في يد يسوع اليُمنى بعد ما جرّدوه من ثيابه، ووضعوا على رأسه اكليل الشوك (متى 27/29).
العصا، هي عصا الراعي الصالح، الساهر على القطيع وعلى الخراف، وهي عصا السفر والدرب الطويل والترحال. إنّها عصا السلطة الروحيّة، ورمز للصليب المقدّس. كانت اوّلاً من خشب، وقيل عن الذين يحملونها «عِصِيُّهم من خَشَب، أما قلوبهم فمن ذهب». إنّها عصا التأديب والتأنيب. هذه العصا لا تحمل في أسبوع الجمعة العظيمة. وكذلك التاج لا يُلبَس في أسبوع الجمعة العظيمة، ولا يُقال «برخمور ريش كهنه» أو «بارك يا سيّد». هذه من المحرَّمات والممنوعات الكلاميّة، او اللباس. ولا يجوز الجلوس على العرش طوال أسبوع الجمعة العظيمة، لأنّ طقس آلام الإله الفادي وعذابه أقوى من طقس مجد العالم.
ويبقى السؤال: هل العصا هي للمجد والتباهي أو التعالي بمن عنده العصا الأكبر والأعلى والأغلى. إن هذا هو بعد دنيوي ونحن نبحث عن البعد الإنجيلي. ونحن نسأل هل يسوع يريدنا هكذا؟ أمّ إنه علينا أن نكتفي بصليب اليد لنحمل تواصل يسوع فنستغني عن جميع المظاهر الدنيوية الفانية؟

البطرشيل

كان الأقدمون يحمون العضو الذكريّ، بجهاز stoly باليونانيّة الذي هو L’étui pénien الحامي الذكريّ، وهو كناية عن قصبة أو خشبة مقدوحة تحمي هذا العضو من الجراح عند السير في الأدغال أو بين الأشواك، ولمزيد من الحماية والوقاية كان يوضع على الخصر شقفة جلد أو قماش تتدلّى حتّى الركبَتين تزيد من الحماية والوقاية. لنتذكّر ما كتبه الملهَم: «وتصنع لهم سراويلات من الكتّان لتغطّي عُري أبدانهم، من الحقوَين، الى الفخذَين» (خروج 28/43).
بعد هذا، وُضِعَ نوعٌ من القماش، كان يتدلّى من الكتفَين حتّى الركبَتين لتحمي الأعضاء الجنسيّة، وهي دلالة على السلطة والقوّة والأولويّة والملوكيّة والرعاية والكهنوتيّة، وتطوّرت حتّى صارت فيما بعد ما يُسمّى «البطرشيل» الذي هو علامة السلطة والقوّة والأوليّة والكهنوت. إنّها نير الربّ الخفيف (متى 11)30).
بالأساس كانت ثوباً طويلاً يرتديه الكهَّان الوثنيّون ونساء اليونان والرومان. أمّا لبسه من قبل الكهنة في المسيحيّة، فهو يعني السلطة الكاملة لرعاية الخراف وبعضُهم يقول: إنّه رمز للحبل الذي ربط به الجند رقبة يسوع عندما انتقلوا به من عند قيّافا إلى بيلاطوس ثمّ إلى هيرودس. فإلى الجلجلة. أمّا معناه الحقيقيّ فيرمزُ إلى صليب يسوع المحمول على الكتفَين ولنيره الطيّب وحمله الخفيف.

كمّ الزند

إنّه القماش الذي يحفظ كمّ القميص من التلوّث بدم الذبائح والضحايا والمحرقات. لأنّ الدم يدنّس، وهو محرّم و«تابوه» Tabou. لذلك كان «الكهّان» يحفظون أكمامهم من التلوّث بالدم الذي يحمل كلّ الغضب الإلهيّ، وكلّ الممنوعات والمحرَّمات. وهذا الكمّ هو الذي كان يَمْسَح الكهّان به عرقَ جباهِهم، أو أيّ تلوّث يطال أجسادهم وثيابهم، في حال إتمام الطقوس المليئة بالأسرار والألغاز والمخاطر، والغضب الإلهيّ، واللعنات والأوبئة والأمراض والمصائب. انه الدم، الدم المخلّص والفادي أو الدم المدنّس والمدمّر والحامل الويل والضربات والغضب واللعنات.
التاج: إنّه رمز الكهنوت والمجد والملوكيّة
وهو علامة السلطة والأولويّة والعلامة الممّيزة والفارقة للآلهة والملوك، والتي تعطي الوقار والمهابة والحقّ بالقرار والرئاسة. لكن، إضافة إلى كلّ هذا، كان للتاج أو لخوذة الرأس وظيفة الحماية والوقاية، لأنّه، وبحسب دراسات فرازر عن الكهنوت، يعني أنَّ الذي يقتل الكاهن، كان يقوم مقامه في الكهنوت والملكيّة والسيطرة والأولويّة. في كتابه «الغصن الذهبي»، يقدّم لنا فرازر أجمل الصفحات عن هذا الكاهن الساهر، المتيقّظ، الخائف أن يَنقضَّ عليه غريم، ويقتله ليأخذ مكانه. لذلك، كان الغدر بهذا الكاهن يتمّ من ضربةٍ على الرأس، أو طعنة من الوراء بين الكتفَين لذلك كان عليه أن يحميَ رأسه وظهره وكتفَيه، وهذا ما نجده إلى اليوم في لبس الأساقفة الأرمن والأرثوذكس، أو سواهم من خوذات عسكر، وطاقيّات المحاربين. بقي منه قطعتا قماش تتدلّيان على الرقبة. وهو يرمز كما يقول بعضهم إلى اكليل الشوك الذي وضع على رأس يسوع.
في العهد القديم، لبسه هارون (خر 39/30-31)، وهو يدّل على معرفة العهد القديم والجديد. في المسيحيّة، صارت ترمز إلى المنديل الذي غطّى به الجند رأس يسوع بعد لطمه (متى 26/67-68)، وإلى خوذة الخلاص في رتبة الرسامة: ألبس يا ربّ عبدك هذا خوذة الخلاص، وهي لاتّقاء الشرّير. ويقول بعضهم الآخر إنّها رمز الغمام الذي غطّى تابوت العهد (الخوري ناصر الجميّل، الرموز المسيحيّة، ص 63، بيروت 2007).

المنصفة

أمّا، ما يسمّى «بالمنصفة»، فهي تتبع ذات الشرح، عدا أنَّ وظيفتها تُلَخَّصُ بإبعاد العرق عن الرقبة وما بين الكتفًين. أمّا الدلالات والرموز المسيحيّة التي تُعطَى لها اليوم، فقد أتت متأخّرة، ويمكننا القول كما إنَّ المسيحيّة «نَصْرَنَتْ» الأماكن والأعياد والطقوس والأزمنة، فقد «نَصْرَنَتْ» هذه الملابس وعمَّدَتها بمعانٍ رمزيّة مسيحيّة. وهذه ربّما كانت عبقريّة المسيحيّة، إنّها لم تُلْغِ ما قَبلَها، ولم تُدَمِّره، بل بعمليّة مثاقفة أعطت للمسيحيّة خصوبَتَها وتساميها وَدَمَجت هذه العناصر في مدارها الثقافيّ والروحيّ؛ وهذا ما أعطى للمسيحيّة زخم تَجدّدها الدائم ما يَكفيها مع كلّ زمان ومكان. وهذا ما يسمّى «بلاهوت الوقت»، والمكان، والجماعة القائمة في بيئة معيّنة، وثقافة معيّنة، وزمن معيّن. وهذا ما يُقال له «أًوْنَنَتْ» الليتورجيّا. فعبقريّة المسيحيّة أنّها، في مسارها، أخذت عاداتٍ وتقاليداً وفولكلوراً وطقوساً وملابساً ومآكلاً وشخصيّة الشعوب، وعَمَّدَتها بنعمة يسوع، آخذة ما فيها من غنىً وجمال. لا وثنية في المسيحيّة، ولا جاهليّة في المسيحيّة، بل استعداد لوصول العروس يسوع. تحضير لظهوره وتجلّيه وحضوره، من بداية الكون والزمن إلى الساعة. لقد أتت الساعة، إنّها الساعة، التي كلّمنا الله فيها بابنه ولم يعد يكلّمنا برموز وبأشباهٍ شتّى (عبرانيّين ....). هذا هو الحدث المذهل الذي صمت فيه الله، ولم يعد عنده كلام يقوله لنا، بل أعطى لنا بابنه أن نحمل سرَّ الخلاص والفرح والحبّ والسلام والمغفرة للعالم. فهل نحن نحمل خوذة الخلاص وهي الإسكيم عند الرهبان وهو ما زال لبس أساقفة السريان والأشوريين ويعود الى اصولنا وجذورنا ونلبس فقط الإسكيم وحده وليس التاج ولا حمل العصا بل الصليب في حركة طقسية تجديدية جذرية؟!.

البشكون

أمّا البشكون، وهو أداة فصل بين الناس والكاهن والمذبح. إنّه علامة على أنّ هذا الانسان مفصول، منقطع عن الجماعة، إنّه المكرّس لعالم آخر، لم يعد في المسافة التي فيها الناس، بل أصبح في مسافة أخرى وفي مدارٍ آخر. لم يعد من العالم بل صار لله، وهذا ما يمكننا أن نطبقّه أيضاً على الثوب الرهبانيّ أو الإسكيم الرهبانيّ. إنّه قد انقطع عن الناس، وصار منذوراً للهِ، يعيش له وحده ومعه. صار «وحيداً مع الوحيد الأزليّ». لا شيء بَعدُ يُلهيه عن الله، لا مجدُ العالم، ولا شهوةُ الجسد، ولا حبُّ المال والمتعة. (إنّه يعيش حياة ملائكيّة يقظة لمجد الله. (الخوري ناصر الجميّل، الرموز المسيحيّة، ص 57).

الزنّار

إنّه الحبل الذي يشدّ فيه الإنسان حقَويه. أَلَم يَقُلِ الله لأيّوبَ «قم اشدُّد حقَويك، وكن رجلاً». وهو أيضاً الرباط الذي نحزم به الملابس فوق الوركَين، للمساعدة على المشي والجري بدون أن تتمزّق الثياب. إنّه في المسيحيّة رمز للحبل الذي رُبط به يسوع إلى العمود حين جُلد. وهو رمز العفّة والنقاء وقهر الشهوات والحضور للخدمة والاجتهاد، والتنبّه والنشاط لخدمة الربّ والمذبح باحتشام وحياء. إنّه لباس الرحيل والسفر (خروج 12/11). هو لباس الزهد والتجرّد والتوبة (متى 3/4) كلباس يوحنّا المعمدان(10/25). وهو يعطي القوّة للقتال (مز 18/40، أعمال 21/10/11) إنّه علامة الخادم الساهر على خدمة سيّده (لوقا 12/35)، وإنّ الربّ يتملّك هذا الانسان المختار (يوحنا 21/18).
القميص الأبيض (او الكتّونة)
جاء في كتاب الرؤيا: «هؤلاء اللابسون الحلَلََ البيضاء، مَنْ هُم ومِنْ أين أتَوا؟...هؤلاء هم الذين أتوا من الشدّة الكبرى، وقد غَسَلوا حُلَلَهم وبيّضوها بدم الحمل. لذلك هم أمام عرش الله يعبدونه نهاراً وليلاً، في هيكله، والجالس على العرش يظلّلهم... ويمسح كلّ دمعة من عيونهم» (رؤيا 7/13-17).
الكتّونة البيضاء هي النقاء، والثلج. إنّها الحالة الطقسيّة المشعشعة هفافاً ونوراً والتي يتجدّد فيها كلّ شيء، الداخل والخارج، الزمن والمسافات، الجمال الإلهيّ واللياقة الانسانيّة، روعةُ العبادة وبهاءُ الملابس، والزينة المقدّسة. يتجلبب بها الكاهن، أو الوسيط، أو الحاكم أو الملك، فتميّزه عن سائر الجماعة.
إنّه النور الإلهيّ وفرح خدمة الربّ. ملاك الربّ يتّشح بهذا الثوب (حز 9/2)، وهذا هو لباس القيامة والتجلّي، ولباس العروس والمختارين (رؤيا 7/9 و14).
قميص الطهارة والنقاء، وثوب الخلاص والبرارة هذا، يرمز إلى القميص الذي ألبسه هيرودس ليسوع ليستهزِىءَ به.

الغفّارة أو البدلة

كالبدلة التي ألبسها موسى لهارون. إنّها بالحقيقة التوشّح بالمجد والقوّة وستْرُ جميع ما تحتها. إنّها تعطي الأبّهة والعظمة، وهي ترمز إلى ثوب البرفير الذي ألبسه الجلاّدون ليسوع، بعد جلده.
التجديد من الرومنسية الى العلم
هل يتلاءم تجديدنا الليتورجيّ ويحمل جوهر الرموز التأسيسيّة التي تكلّمنا عليها؟ هل علينا التخلّي عن بعض الظواهر وتركها لكي نتعلّق بها بطريقة عاطفيّة رومنسيّة، أم إنّ هذه المحاضرات القيّمة ستكون لنا حركة تجديديّة تطهيريّة، صافية، واعية، علمية، عاقلة، وغير متهورة أم إنّه ينبغي علينا أن نُبقي هذه الأشياء في صنميّتها ونجعل من كنائسنا متحفاً ومن ثيابنا كرنفالاً يستند على أفكار موروثة، ولا ركائز علميّة تاريخيّة أنتربولوجيّة لها؟ (La Sociologie du Rite, Jean Cazeneuve, Puf, Paris) وهي غير صحيحة بل ترتكز على تراكمات تنبع من الحنين والذكريات. تجدّدت الكنيسة المارونية وبقيت في أبهى أيّام تاريخها متجدّدة رائدة، ذاهبة الى العمق. نحن نعرف أنّ «البيت كازو المارونيّ» والذي كان للأباتي يوحنّا تابت الفضل في ترجمته ونشره و«الريش قوريان» يحملان الغنى اللاهوتيّ والروحيّ للكنيسة السريانيّة الأنطاكيّة المارونيّة. وإنّ البطريرك اسطفان الدويهيّ هو رائد التجديد الطقسيّ والليتورجيّ والكنسيّ والتنظيميّ. وإنّه كان لمجمع اللاتران سنة 1215 المجال الأول في التغيير عند الموارنة، والاتجّاه نحو الغرب أو ما يُقال له اللبتنة. أمّا مدرسة روما المارونيّة فكان لها الدور الكبير بتعزيز هذا المنحى، وكذلك مدرسة حلب الموجودة على ملتقى الطرق والحضارات والثقافات. بعد هذه المدارس التجديديّة برز دور المطران بطرس ديب والبطريرك الياس الحويّك، والبطريرك أنطوان عريضة والمونسنيور ميخائيل الرجّي، والرابطة الكهنوتيّة المارونيّة، والمجمع الفاتيكانيّ الثاني. ثمّ أتى الدور الكبير لمعهد الليتورجيّا في الكسليك بفضل الأباتي يوحنّا تابت، والذي واصل حمل المشعل بعده الأب هاني مطر، إلى أن انتهى بنا الأمر إلى اللجنة البطريركيّة للشؤون الطقسيّة والتي يرأسها سيادة المطران بطرس الجميّل، والتي أخذت على عاتقها تنظيم الموارنة بقرار بطريركيّ بعد أن كان الإصلاح يتمّ قبلاً بمبادرات شخصيّة.
واسمحوا لي أن أنوّه بدور المعهد الليتورجيّ في جامعة الروح القدس في الكسليك وبفضل المرحوم الأباتي عمّانوئيل خوري، والأباتي يوحنّا تابت والمرحوم الأب روفائيل مطر، والحبيس الأب يوحنّا خوند، والأب لويس الحاج، والأب هاني مطر، والأخت مارسيل هدايا، والتي يواصل العمل فيها حضرة الأب أيّوب شهوان وجميع العاملين معه. وبأهمّيّة هذه المنشورات التي كانت للإختبار وما زالت قبل وبعد وجود اللجنة البطريركيّة الليتورجيّة، والتي لولاها لبقي الكثير من كنوزنا وغنى لاهوتنا الليتورجي طي النسيان (أشير هنا الى أهميّة مجموعة البيت غازو المارونية التي قام بترجمتها ونشرها الأباتي يوحنّا تابت، و«الريش قريان» للأخت مارسيل هدايا، وسواهم). كما بأهميّة الرتب الرُهبانيّة والطقسيّة وبالزيّاحات (زيّاح الميلاد أو الصليب) والصلوات، والمتعيّد (القدّيسين: شربل، رفقا والحرديني)، ومنشورات المعهد العلميّة: محاضرات هامّة تشكّل المرتكز العلميّ للإصلاح الليتورجيّ الذي ليس هو عواطف وحنين، بل هو علم والتزام بالإنجيل.

خاتمة

واسمحوا لي أن أختم بما جاء في المجمع الفاتيكانيّ الثاني في التجديد الليتورجيّ، وبما جاء في مقال القّس عيسى دياب في مقاله: «بين الكهنة والأنبياء: التحجّر الدينيّ»، في الديار 25/10/2097): «إذا أردنا أن نعرف طريقة بروز الطقوس وعلاقتها مع الجوهر في الدين الواحد يجب أن نطلب مساعدة علم تاريخ الأديان أو علم الدين المقارن».
نقاؤنا الأوّل الأصليّ الذي دنّسته الخطيئة وكسرته وشوّهته الرذائل فأفسدت جماله يجب إصلاحه وإعادته إلى أصالته وبكارته الأولى وعذريّته ونقائه، وهذا يتمّ عبر الطقوس التي بها نعبر إلى التقديس. من هنا، يمكننا القول إنّ هناك عقيدة، وهي موضوع الإيمان، وهناك الطقس. ولئلاّ يصبح الطقس مجموعة حركات خرافيّة، عليه أن يُدَعَّمَ بالدين وبالعقيدة، أي بالإيمان وليس بالشعوذات. يسهر على هذه العمليّات الكهّان والفقهاء والشهود كالقدّيسين، والأولياء والمتصوّفين والعبّاد والمكرّسين والأنبياء، في سلوك من الطهر، والنقاء والعقلانية، والصفاء والقداسة. لكن الخطر هو حين يقوم الكهّان يدافعون عن مظاهر الطقوس بطريقة تقليديّة، فيصبح المعتقد مظاهر وطقوساً فارغة او العوبة كما في لعبة «اليويو» التي كانت طقساً مقدساً وكذلك لعبة «الإكس» التي كانت طقساً مقدساً وكذلك «الودع» و«الحجارة». ويقيمون نفوسهم حرّاساً لله، قاطعين الدرب على الملهمين والأنبياء والمصلحين، فيقوم عندها في الجماعة تياّر كهنوتيّ متجمّد: الفرّيسيّون من هنا، وتيّار نبويّ إصلاحيّ متحرّر متحرّك من هناك. فيقوم الكهّان، وخارجيّاً فقط بالروبريكات، على ترتيب وتنظيم الطقوس، وكأن الطقس هو الأساس، وهو الغاية والهدف من الدين. ويقوم الأنبياء والراؤون بالتأويل وبتخطّي الخرافات والحكاية التي أخذت تطمر جوهر الدين تحت تراكمات من التسطح، حيث أصبح الدين طقساً وممارسة اجتماعيّة خارجيّة وليس عيشاً داخليّاً يضجّ فيه الروح.
الخوف إذا هو من احتفال طقسيّ يكرّم فيه كلّ شيء إلاّ الله، من لباس وشعائر وأنغام ومباخر وتبريكات وإشارات وصلوات. كلّ الديانات فيها هذه الطقوس وهذا الجوهر وفيها أناس الكهنوت وأناس النبوءات. لكنّ الخوف هو من «تقديس» وتأليه الطقس، أي المظهر الخارجيّ أو التقليد، وإهمال الجوهر الدينيّ الأصيل. لكن، علينا الإنتباه عند تفجّر العاصفة النبويّة أن تجرف في تيّارها الركائز الأساسيّة للمعتقد والدين، وإلاّ وصلنا إلى الغلوّ والتطرّف، وأوجدنا بِدَعاً وشيعاً جديدة. الإنسان بحاجة إلى الطقوس والشعائر والصور والرموز والمباخر. فللطقس بُعدٌ عقائديّ وبُعدٌ تربويّ ينشأ فيه الفرد عبر الصور والرموز والإحتفالات على الحقائق الإيمانيّة، وعلى تاريخيّة المعتقدات، لذلك هو يصنع ذلك للتجدّد والتذكّر.
نهاية، في «وثيقة المجمع الفاتيكانيّ الثانيّ عن الليتورجيّا المقدّسة»، يقول: لمّا كانت الطقسيّات قد غَدَت مشوّهة بسبب ما أُدخل عليها عبر العصور، رأى المجمع أن يجدّدها حتّى تأتي بالثمرة المتوخاة، وطبعاً مع العلم أنّ هناك قِسماً إلهيّاً لا يتغيّر (المجمع الفاتيكانيّ الثاني، ص 194).
هذا التجديد يجب أن ينبعَ من «دراسة لاهوتيّة وتاريخيّة ورعويّة متقنة، وليأتِ التجديد نتيجة تطوّر عفويّ. إذ لا يجوز أن نضرب بالتقليد عرض الحائط، وطبعاً يجب أن يحتلّ الكتاب المقدّس في كلّ هذا المركز الأوّل (صفحة 195) وأن يحافظ على ميزات الشعوب ومواهبها...» (صفحة 195). ولنعرف أخيراً «أنّ التجديد هو بالتجديد الداخليّ لا ببعض تعديلات خارجيّة» (صفحة 198). وعلينا كما يقول الأنبا يؤانس في مقاله: «كيف تتجدّد حياة الكنيسة» (النهار، الأحد 4 تشرين الثاني 2007): «إن التجدّد في الكنيسة ينبغي أن يفهم على إنّه رجوع إلى الكنيسة الأولى... وكلّ ما يتصل بها من حرارة الروح وبساطة الإيمان وبعمل الروح القدس... إنّ حاجتنا الأساسيّة هي العودة الى الله أكثر من حاجتنا الى استخدام واستحداث أنظمة اجتماعيّة... نحن نفتّش عن الجوهر... وهذا الجوهر ليس شيئاً آخر سوى المسيح... علينا ترجمة العقيدة بأسلوب العصر مع الحفاظ على الروح باستيعاب لغتنا العربية واستخدامها استخداماً سليماً في التعبير عن العقيدة... وعلينا ربط العقيدة بالليتورجيا... وعلينا أن تركّز على الكتاب المقدّس لكي يصبح كتاب الحياة الشخصية من أجل حياة جديدة... وعلينا إحياء الإحتفالات الطقسية الأسرية والإهتمام بتزيين البيوت بإيقونات الشهداء والقديسين... وعلينا التوعيّة على أسرار الكنيسة وتعميّق مفهوم المحبة من خلال سريّ الإفخارستيّا والذبيحة...»

* * * * * * *

ليست هناك تعليقات: