الجمعة، 20 يونيو 2008

ريش قريان أو الذاكرة ضد النسيان

«ريش قريان» كلمة مُشتقة من اللغة السريانية: فوروش قريونو أي القراءات المختارة للفروض البيعية Lectio selecta مقابل القراءات المتتابعة للكتاب المقدس.
«ريش قريان قزحيا» 1841 أعدته ونشرته الأخت مارسيل هدايا ضمن سلسلة منشورات جامعة الروح القدس – الكسليك معهد الليتورجيا، 38( 2007).

سبق ونشر الأباتي يوحنا تابت أقدم مخطوط ريش قريان ماروني (1242م) المعروف بمخطوط سلمنكا في سلسلة المنشورات ذاتها تحت رقم 9 (1988). وأتت اليوم الأخت مارسيل هدايا الاختصاصيّة والباحثة في العلوم الليتورجيّة والأستاذة في معهد الليتورجيّا في جامعة الروح القدس الكسليك، تقوم بإعداد ونشر وبحث في أهمية وميزة وغنى القراءات الواردة في ريش قريان قزحيا الماروني المطبوع بالحرف السرياني في مطبعة قزحيا سنة 1841م. وكانت المرة الأولى والأخيرة لطبع هذا الريش القريان الذي استقت منه الكنيسة المارونيّة طوال قرون في ليتورجيتها. هذه القراءات هي المنبع المستند على العهدين القديم والجديد (باستثناء الانجيل). بلغ عدد القراءات 719 قراءة: منها 375 قراءة من العهد القديم و344 من العهد الجديد. هذه القراءات موزعة على السنة الطقسيّة بقسمين. قسم يتبع الحساب الشمسي والقسم الآخر يتبع الحساب القمري.
من البديهي الإشارة إلى أن الكنيسة المارونيّة تغذّت من هذا النبع في روحانيتها تلاوة فروضها البيعية على مدار السنة الطقسية، كما في احتفالاتها وأعيادها نهلت من هذا الينبوع كلمة الرب المعاشة صلاةً وتأمّلاً واحتفالاً طقسيّاً.
تأتي أهمية هذا «الريش قريان» على أنه أول كتاب قراءات كتابية ماروني طُبع في مطبعة قزحيا سنة 1841م العائدة إلى الرهبانية الللبنانيّة المارونية. من بعد هذا التاريخ لم يعد يصدر هذا الكتاب بالحرف العربي. من اللافت والمهم، وبالمقارنة مع مخطوط الريش القريان القديم (1242م= سلمنكا) الذي نشره الأباتي سنة 1988 والريش قريان قزحيا، يتبيّن بأن واضعي هذا الأخير لم يكونوا على علم بمخطوط سلمنكا عند طبعهم كتابه الوحيد للقراءات سنة 1841.
أضف إلى ما سبق إن المعطيات الموجودة في هذا الريش قريان تتطابق مع النص السرياني المترجم للكتاب المقد س، المدعو «فشيطو» أي البسيط. ويُبان من عدد القراءات البالغ عددها 719 قراءة، أن هناك ظاهرة مهمة لهذه القراءات، فمنها ظاهرة القراءات المعادة، ومنها المُتتابعة، ومنهـا المركبة. إن دلّت هذه الظاهرة على شيء ما أقّله أن كاتب النص له إلمام واسع بالكتاب المقدس مع نظرة لاهوتيّة عميقة.
هذا الكتاب الهام يصدر للمرة الأولى باللغة العربية. وهنا تكمن أهميته للذين لا يتقنون اللغة السريانية أو نسوّها أو يجهلوا غناها وجمال وعمق لاهوتها. وقد ظهر ذلك في النصوص التي استُعملت من قِبل لجنة الاصلاح الليتورجي الجديد التي عادت إلى الينابيع والجذور والكنوز في الصلوات والفروض بعد جهد قامت به اللجان الليتورجيّة لأكثر من مدة عشرة سنوات.
الموضوع الأهم هنا، في هذه الدراسة هو البحث والسؤال عن الينابيع التي استقى منها ريش قريان قزحيا وكيف تطورت؟ ومن هو واضع هذا النص الهام؟ وهنا راحت الباحثة الرصينة والعميقة والدقيقة، الأخت مارسيل هدايا، لتستطيع الإجابة عن هذا السؤال، راحت تسأل كتابات ومراجع الباحثين الذين سبقوها في هذا المجال ومنهم: نهاد رزوق، وهو باحث كتب عن جرمانوس فرحات، والأب انطونيوس شبلي، واسحق ارملة السرياني، والمطران بطرس ديب ، والمونسنيور ميشال حايك والأباتي يوحنا تابت.

الخاتمة:

في إعداد هذا الكتاب ونشره، فتحت الأخت مارسيل أمام الباحثين في الكتاب المقدس آفاقاً واسعة ليتسنّى لهم معرفة ينابيع هذين التقليدين وتطورهما ومصيرهما. لأن المقارنة التي قامت بها أظهرت بان مخطوط سلمنكا وريش قريان قزحيا المطبوع يمثّلان تقليدين مارونيين مختلفين للقراءات.
في كلّ هذا العمل الطويل استندت الأخت مارسيل على منهجية علمية رصينة، بدايةً بمقدمة علمية مفصّلة إلى نشر النص بالعربي مع تبويبه، وصولاً إلى وضع ثلاث ملاحق مهمة وخاتمة. هذا الضنك العلمي لنبشّ الجذور والكنوز الأنطاكية السريانيّة المشرقيّة تناوب عليه علماء موارنة، نذكر منهم في الزمن المعاصر الخوري يواكيم مبارك، المونسنيور ميشال حايك، والأباتي يوحنا تابت الخ.
وأتت الأخت مارسيل تتابع هذا المسار في الكشف عن هذه اللآلئ في غور النسيان. أعرف أنا شخصيّا هذه الراهبة الساهرة وراء مكتبها وأوراقها مكرّسة حياتها للبحث العلمي الدقيق حتى تقرّح العينين وانحناء الظهر ووجع اليدين والرجلين. أليس هذا ما فعله أيضاً الأباتي بولس نعمان مع الأخت بندكت كوشوا عندما نشرا كتاب نمرون الباني؟
وحدها الثقافة تعطي للشعب مجدها كما كان ذلك في أتينا وروما وأوروبا ولبنان ... وليس الثرثرة السياسية والركض السياسي. وحدها ولائم الفكر والقداسة تبقى، أما ولائم اللقاءات السياسية فستذهب مع الريح وسيأكلها الزمن والنسيان ولن تضيف أيّ مجد على مجد إرث الآباء والأجداد.
* * * * * * *

ليست هناك تعليقات: