كلمة البروفسور الأب يوسف موّنس
في ندوة
حول كتاب عمر زين:
«تقي الدين الصلح سيرة حياة وكفاح»
نهار الجمعة 13 حزيران 2008 الساعة 6 مساءً
في قاعة دار الندوة – الحمرا – خلف البيكاديلي
طربوشه كصخرة الإله اطلس Atlas
يرفع طربوشه وكأنه يعوّمد السماء. هكذا هم أنصاف الآلهة Les Demiurges يشعرون وكأنهم مُنتدَبون من السماء ومن الناس لحمل رسالة نصفها إلهي ونصفها الآخر انساني. وهي تبقى ممكنة لكنها تسكن على حدود اللامعقول والمستحيل. هم يؤسسون لتأليه الإنسان والأوطان ولو أغضب ذاك الآلهة لأنهم بخطيئنهم طاولوا المحرم المحمي بالنار واللهيب كسروا الممنوع والموت والوعيد. هكذا كان برومتيوس Promethée وديونسوس Dionisos، وسيزيف Sysisphe حُكم عليهم لأنهم تجرأوا وكسروا المحذور والممنوع، أخطأوا وارتكبوا المعاصي فحكم عليهم أن يدفعوا طوال حياتهم عقاباً لجريمتهم، صخوراً على تلال من الرمال أو ان يملأوا سلالاً من الماء والريح أو أن يُكبَلوا بالسلاسل على الجبال لتأتي الغربان لتنهش كبدهم حيث تزهر الحرية والثورة على مدى الأيام.
يرفع طربوشه على رأسه كما الإله اطلس Atlas يحمل على كتفيه الأرض، خائفاً عليها الاّ تقع. هذه هي المهمات المستحيلة التي أُنتدب لها المؤسسون والذين منهم تقي الدين الصلح.
الجمال والتألق
تحت الطربوش هذه البسمة الرقيقة يزيّنها بريق في العينين المكتوب فيهما النبل والذكاء واللطف ولياقة الأمراء وكبرياء الفوارس وربطة العنق المتأنقة في تألق الذوق والجمال كأنه يكتب على الريح ثقافة آتية من عالم آخر خائفاً لئلا تقع الأرض وأبناؤها في ثقافة التفاهة.
وطن المعيّة
إنه مصير المؤسسين من الروّاد والأبطال الذاهبين الى حدود الحرية على الأرض اللبنانية المغموسة بالاعتدال «الصلحي» والتنوع الحضاري الإنساني الأخلاقي المسيحي الإسلامي. يحلم هو «بوطن المعيّة». أن تكون، لا أن تكون فقط، بل أن تكون مع، أي ليس في الأنا وحدها بل انا – أنت، في تشكيل وجودي فردي، أي في المعيّة، أي في العيش الوجودي حباً للآخر المتنوع والمفترق. إذ إن أي تدمير للآخر هو تدمير للذات وإلغاء فرح الحب والسلام والتلاقي بالآخر. الأخ ليس هو الجحيم كما يقول سارتر بل هو مصدر ونبع معانّي ونيّة وجودي.
كتاب موسوعي موثق
هذا الكتاب الموسوعي الموثّق الموّشى بالروح الوطنية والمناقبية السياسية التأسيسية للميثاق الوطني كما يقول سليمان تقي الدين في محاضرته في 18/12/2007 عن تقي الدين الصلح ولو ان ابرته لا تكّل عن الحفر في جبل الصوان يبقى مشدوهاً بالجمال والثقافة. يؤسس لوطن الحب والجمال إذ وحده الجمال Philocalia كما يقول Tolestoï وليس الـ Philosophia هو الذي يخلّص العالم. لا لم يكن في العبث واللامعنى بل في الغائية الخلاصية المعطية المعنى لكل الوجود لينبت الفرح في سر الوجود ولو نهشت الغربان اكبادنا على جبل الميثاق اللبناني الذي حلمنا به.
أقرأ من سفر ابائنا الأطهار
كم كنت أحب أن ابدأ كلمتي بما نقوله نحن في الكنيسة عندنا عندما نقرأ الكتاب المقدس فنقول: اقرأ من سفر ابائنا الأطهار. تقي الدين الصلح نقرأه اليوم في كتاب عمر زين كأننا نقرأ من كتب ابائنا الأطهار.
كتاب التاريخ
هذا الكتاب يحمل البعد التاريخي الرومنطيقي. فأنت تقرأ شاتوبريان، ميشله Michelet أو فوستل دو كولونج Fustel de Coulange أو فولني Volney أو لامارتين أو كتاب الأزمنة لاسطفان الدويهي أو أمين الريحاني او المطران يوسف الدبس. عمر الزين هو الحكواتي المثير والغير المثرثر، والتاريخي غير المضجر، لأن الشعوب التي لا حكايات لها تموت من البرد La tour de Pin فهو يوسع موقدة الحنين والدفء والعنفوان. تصغي له وكأنه شهرزاد ذكوري نريد أن لا نقتله وهو يروي لنا الف حكاية وحكاية في 1350 صفحة. وعندما تنتهي الصفحات تسأله لمَ اوقف السحر ولمَ توقّف عن الإغواء الأدبي والفكري والتاريخي؟
في البدء كان الرجال
هكذا في البدء كان الرجال والوطن. هكذا كما في البدء كانت الكلمة والكلمة هي الله هذا الكتاب الملحمي هو «السنكسار» أي كتاب حياة القديسين الآباء الأوائل. كم كنت احب أن ابدأ كلامي كما قلت سابقاً عندما نقف على «القراية» في الكنيسة أو في المحراب في الجامع لأقول كان يا ما كان، كان فصل من تاريخ ابطالنا الذين صنعوا لنا مجداً. لنذكر اباءنا الذين ولدنا منهم وتكر الأسماء كما في طلبة جميع القديسين: رياض الصلح، بشارة الخوري، قسطنطين زريق، سلمى صايغ، جورج كفوري، لبيب رياشي، اديب مظهر، امين الريحاني، صلاح لبكي، الياس الخوري، رئيف ابي اللمع، وديع عقل، شارل قرم، يوسف الحويك، يوسف السودا، افلين بسترس، ابراهيم المنذر، محمد جميل بيهم، حبيب تابت (ص 92). جورج الكفوري، كرم ملحم كرم، توفيق الشرتوني، الياس ابو شبكة، فؤاد حبيش، شبلي الملاط، الآنسة كحلا والعديد غيرهم (الصفحات 67، 68، 94). وابتدأت حركات التاسيس في طقوسية سياسية فكانت أول نقابة لمعلمي المدارس الخاصة (ص 60). والحركة العربية السرية (ص 60).
الزجل في خدمة الوطن
ودفع فرقة شحرور الوادي لدعم الاستقلال أي استعمال الزجل والشعر العامي لاستنهاض الناس واثارت عاطفتهم للوقوف والدفاع عن الاستقلال. هذا ما فعله مار افرام السرياني في الجيل الرابع للدفاع عن مريم العذراء. كتب زجلاً وأسسّ جوقة تقول تلك العقائد وترددها في الساحات وفي الكنائس (ص 78 – 79).
هو السياسي الأديب (ص 87).
أسس لطمأنة الموارنة (ص 75)
وحفر الجبل بابرة (ص 84).
«تقي الدين النسمة الرقيقة والبسمة الوديعة والأناقة المتواضعة واللياقة المثال. تعب قلبه من مراد نفسه الكبيرة فتوقّف عن الخفقان في باريس بينما كان على أهبة العودة الى لبنان وصمت صوت ميثاقي، وطويت صفحة مشرقة من التاريخ ملأ بالمجد والنشاط والإنجازات والرؤى» (الجزء الأول، ص 89).
الإهتمامات الكبرى الثقافة وحريّة المرأة
كانت الثقافة احدى همومه الكبرى كالبابا يوحنا بولس الثاني الذي كان يردد انا ابن وطن زال عن الخارطة مراراً ولم ينقذه ويعيده الى ذاته الاّ الثقافة. وأدرك بحسه العميق دور المرأة وتحريرها من الحجاب لتقف ثائرة في ساحة الحرية والكرامة. فمن يقرأ الصفحات 260 و261 من الجزء الثاني يعرف فيه الرجل الرائد العظيم. اذ رحنا اليوم باسم السماء نحجّب نسائنا ونعيدهن الى وأد البنات، فكأننا جاهليين بربرين جدداً ومن نوع آخر لا علاقة للسماء ولا لله بما نقول وبما نفعل.
حين قال: «لم تكن يد سعد ولا يد صفية هي التي نزعت الحجاب عن وجه المرأة وحطمت قيدها وانما هي يد الثورة... انها اجواء الحرية وتحت اضواء الشعلة الوطنية (ص 264-265). وشعب لبنان اليوم مدعو الى نضال جديد وبمفهوم ثوري وروح الفداء (ص 66 الجزء الثاني). وبحنين كبير أذكر صداقته مع الياس سركيس (ص 227) خاصة حين كلفه تشكيل الحكومة (ص 222).
معطوبية الميثاق
معطوبية الحلم أتت من ميثاق لبناني لصيغة هي المولود المخلص للتاريخ من الإرهاب الديني والظلامية الدينية التي وصلت بهذه الهويات القاتلة حتى انها في العراق باسم الدين فصلت الخيار عن البندورة باسم الله، ومنعت بيع المكسرات، واستعمال المقص فقط للحلاقة، ومنعوا اختلاط الأطفال الإناث والذكور وقتلوا، ونحروا وروعوا باسم الله (جريدة الأخبار، الثلاثاء، 27 ايار 2008). تجاه هذا الموقف نجد موقفاً ثورياً جديداً للمؤتمر الذي عقده الملك عبد الله في السعودية وكأنه مجمع فاتيكاني تجديدي للفكر الإسلامي.
لأجل الصيغة اللبنانية التي هي وحدها مثال Archetype التعايش المستقبلي للحضارات والشعوب والأوطان ضد التطهير الديني والتنقية العرقية والدينية ضد الإرهاب الديني والسياسي والأصولي والهويات القاتلة، الذابحة باسم الله وباسم الكراهية الله نفسه الذي اسمه محبة.
هذه الهلوسة التاريخية التي يتكلم عنها هيجل ويرددها احسان شراره في مقاله في اللواء نهار الأربعاء 13/2/2008 فيقول: «تقي الدين الصلح، المحاور اللبق، آخر الطرابيش السياسية اللبنانية. حمل أوجاعه ومعاناته واسراره واحباطه وسافر او اكره على مغادرة الوطن الذي أحبه حتى العبادة. وتحمّل بارهاق الآم البعاد وهول التآمر مع الأرض والناس والقضية، ورحل منهكاً من الصدامات والأوجاع والشوق القاتل الى البلد، الجنة التي لم يحفظها بعض أهلها كما ستسحق بل ارهبوها وارعبوها ودنسوها في بربرية ووحشية لم يقم بمثلها الأعداء والغرباء». لو قرأتم معي قصيدة «عرب أنتم» لياسين سويد (النهار، الأحد 27 تشرين الأول 2002) او كتاب فركور André Vercors «صمت البحر» عن الاحتلال الإلماني لباريس، لشاركتموني ما أقول: «هكذا هم منفيون في اوطانهم يرحلون الى احلام اوليسية Ulysse بأحلامهم يصارعون التنانين والوحوش السياسية الزاحفة».
يقول احمد صبري ابو الفتوح عن عمر الزين في هذا المجال. في مقاله في النهار الجمعة 12 تشرين الأول 2007، انه صياد اللؤلؤ الذي يذكرنا بأحد الآباء المؤسسين للحالة اللبنانية الوطنية والعروبية المشرقة وهو ليس أي واحد منهم. انه حالة النقاء التي لا يكدّر صفوها شيء... انها بيوغرافيا رائعة جمعها عمر الزين... انه الكبر والوفاء كرم وسخاء يقول زهير عسيران في السفير الجمعة 6 تشرين الثاني 2007 «في قلم بهي وفروسية الوفاء» يضيف عصام كرم في وصفه لهذا الموقف.
أما مُنح الصلح فيضيف: «وكان تقي الدين الأديب المسلم المسيحي ممارساً العيش اللبناني الواحد كما لم يفعل أحد... ويكاد الفكر الميثاقي يكون هو الجوهر في حركة تقي الدين السياسية».
النموذج والمثال
تقي الدين الصلح هو النموذج والمثال Archetype.
المؤسس والرائد Fondateur.
الحارس للميثاق، وللعهد وللهيكل، وللوطن المنذور على الحب. حارس الحريات لأنه لا معنى للبنان من دون الحرية ولا ضرورة له ولا قابلية له في الحياة. أكثر من ذلك يقول ان لبنان بلا حرية لا يمكن ان نسميّه لبنان.
تقي الدين الصلح المثال في غنى الأخلاق والمثال في الطفر. ألم يتبين بعد وفاته انه كان لا يملك شيئاً سوى بعض الديون التي اعفاه اصحابها من سدادها؟ مثال في النبل، في خدمة لبنان، في الحرية، في الحب، في الثقافة في الأناقة في الكفاح لأجل حرية المرأة وكرامتها مثال في القلق على المصير وتحمّل وجع فاجعة آخر الأيام.
نهاية الأيام
رجل النبؤات هو!
ألم يقل في كتابه في السياسة والحكم عام 1972: «في الأيام التي تسبق انهيار الدول». بالحقيقة انها نهاية الأيام:
«ماذا تشبه الأيام التي نعيشها ان لم تشبه آخر ايام الدول، أو ان لم يكن بالضبط هي الأيام التي تسبق انهيار الدول؟ الخوف على الحدود من الشقيق قبل العدو. والمؤامرة على الكيان من الإخوان قبل الخصوم. الكلام على الخطر الخارجي وعلى الخطر الداخلي، على الطابور الخامس أو على الطوابير حديث الحماية الأجنبية وطلب الحماية. حديث المخطط الإسرائيلي لتغيير خريطة الشرق الأوسط وتحويل دول المنطقة الى دويلات وكيانات عنصرية وطائفية.... نزوح الشباب بكثرة للهجرة. والصورة القاتمة في الخارج عن الأمن وكساد السياحة».
جملة واحدة كأنها سيف المقصلة
جملة واحدة تختصر حكمة العيش في الزمن الأسود قالها عندما يئست زوجة عمر زين من لبنان وقررت الرحيل وكأنه سيف المقصلة: «لبنان الذي نعرفه لم يعد له وجود». فأجاب بحكمة انبياء Delphe بنبؤة ضد القدر «لطالما بقيت هنا كنيسة واحدة تدق اجراسها فسيبقى لبنان» (الجزء الأول صفحة 13). هذا المسلم ينذر للبنان الميثاق. هذا اللبناني الميثاقي كما ورد في الصفحة 13 من الجزء الأول».
لأجله، لأجل لبنان، لبنان المستقل، العربي، الموحّد، والقائم على الوفاق والحرية، ولهذا لم يكّف حتى رحيله عن التغني بالحرية تلك التي لا يعيش لبنان بدونها (الجزء الأول ص 13) اليس هو الذي قال ان الحرية لها طعم واحد، سواء أكان الذي سلبك اياها ابن وطنك أو اجنبياً»؟ (ص 13).
نعم سنبقى معاً مسيحيين ومسلمين كما قالت رسالة بطاركة الشرق لأنه في كل مسيحي بعض من الإسلام وفي كل مسلم بعض من المسيحية فنحن مسؤولون بعضنا البعض أمام الله والناس.
مات متجرداً كالرهبان
كالرهبان مات أسيزي، وشربلي الزهد فهو لم يكن له من بعده لا حصر ارث، بل طربوش ووثيقة وفاة ولا شيء غير ذلك.
إرثه طربوش أكبر من الأهرامات ومن أعمدة بعلبك كأنه شجرة أرز تستظل النسور أغصانها كما قال النبي حزقيال.
وميثاق بين الشعوب والتاريخ وحده عرف مثله حمورابي في شرائعه وقيصر في امبراطوريته، وتوت عنخ آمون في وحدة الإله راع، وتنوع الناس، وأرض فينيقيا في ثالوثية وتجسد الآلهة إيل وأدون وعشتاروت وفي البانتيون الإغريقي في معبد واحد كثير من الآلهة والأبطال، حتى ذلك الإله المجهول له مكان ينتظره على الأعمدة وفي قلوب الناس.
تقي الدين شكراً لك، شكراً لعمر زين، شكراً لشركة المطبوعات والنشر لأنكم معاً أعطيتوناً زيتاً لليالي تاريخنا والذي عليه تهب رياح الليل، ليالينا لن ينطفىء منها البهاء لأن كل ظلام الدنيا لا يستطيع أن يطفيء نور شمعة واحدة وقد ابتدأ الفجر يطلع مع مجيء رئيسنا الجديد ابن الشجاعة والتواضع والهدوء والتقوى والكف النظيف ليؤسس لولادة وطن الحوار والمعيّة، الآتي من رحم الموت والأحزان الى الفرح والقيامة من القبر، مستلهمين روح تقي الدين الصلح وبقية الآباء والتراث الثقافي والروحي الذي ترّبى فيه وتركه لنا. نعم تقي الدين شمعة في ليالينا وكل ظلام الدنيا لن يستطيع أن يطفيء نور *1شمعة واحدة التي لن ينطفىء منه البهاء لأن كل ظلام الدنيا لا يستطيع أن يطفيء نور شمعة واحدة.
* * * * * * *
في ندوة
حول كتاب عمر زين:
«تقي الدين الصلح سيرة حياة وكفاح»
نهار الجمعة 13 حزيران 2008 الساعة 6 مساءً
في قاعة دار الندوة – الحمرا – خلف البيكاديلي
طربوشه كصخرة الإله اطلس Atlas
يرفع طربوشه وكأنه يعوّمد السماء. هكذا هم أنصاف الآلهة Les Demiurges يشعرون وكأنهم مُنتدَبون من السماء ومن الناس لحمل رسالة نصفها إلهي ونصفها الآخر انساني. وهي تبقى ممكنة لكنها تسكن على حدود اللامعقول والمستحيل. هم يؤسسون لتأليه الإنسان والأوطان ولو أغضب ذاك الآلهة لأنهم بخطيئنهم طاولوا المحرم المحمي بالنار واللهيب كسروا الممنوع والموت والوعيد. هكذا كان برومتيوس Promethée وديونسوس Dionisos، وسيزيف Sysisphe حُكم عليهم لأنهم تجرأوا وكسروا المحذور والممنوع، أخطأوا وارتكبوا المعاصي فحكم عليهم أن يدفعوا طوال حياتهم عقاباً لجريمتهم، صخوراً على تلال من الرمال أو ان يملأوا سلالاً من الماء والريح أو أن يُكبَلوا بالسلاسل على الجبال لتأتي الغربان لتنهش كبدهم حيث تزهر الحرية والثورة على مدى الأيام.
يرفع طربوشه على رأسه كما الإله اطلس Atlas يحمل على كتفيه الأرض، خائفاً عليها الاّ تقع. هذه هي المهمات المستحيلة التي أُنتدب لها المؤسسون والذين منهم تقي الدين الصلح.
الجمال والتألق
تحت الطربوش هذه البسمة الرقيقة يزيّنها بريق في العينين المكتوب فيهما النبل والذكاء واللطف ولياقة الأمراء وكبرياء الفوارس وربطة العنق المتأنقة في تألق الذوق والجمال كأنه يكتب على الريح ثقافة آتية من عالم آخر خائفاً لئلا تقع الأرض وأبناؤها في ثقافة التفاهة.
وطن المعيّة
إنه مصير المؤسسين من الروّاد والأبطال الذاهبين الى حدود الحرية على الأرض اللبنانية المغموسة بالاعتدال «الصلحي» والتنوع الحضاري الإنساني الأخلاقي المسيحي الإسلامي. يحلم هو «بوطن المعيّة». أن تكون، لا أن تكون فقط، بل أن تكون مع، أي ليس في الأنا وحدها بل انا – أنت، في تشكيل وجودي فردي، أي في المعيّة، أي في العيش الوجودي حباً للآخر المتنوع والمفترق. إذ إن أي تدمير للآخر هو تدمير للذات وإلغاء فرح الحب والسلام والتلاقي بالآخر. الأخ ليس هو الجحيم كما يقول سارتر بل هو مصدر ونبع معانّي ونيّة وجودي.
كتاب موسوعي موثق
هذا الكتاب الموسوعي الموثّق الموّشى بالروح الوطنية والمناقبية السياسية التأسيسية للميثاق الوطني كما يقول سليمان تقي الدين في محاضرته في 18/12/2007 عن تقي الدين الصلح ولو ان ابرته لا تكّل عن الحفر في جبل الصوان يبقى مشدوهاً بالجمال والثقافة. يؤسس لوطن الحب والجمال إذ وحده الجمال Philocalia كما يقول Tolestoï وليس الـ Philosophia هو الذي يخلّص العالم. لا لم يكن في العبث واللامعنى بل في الغائية الخلاصية المعطية المعنى لكل الوجود لينبت الفرح في سر الوجود ولو نهشت الغربان اكبادنا على جبل الميثاق اللبناني الذي حلمنا به.
أقرأ من سفر ابائنا الأطهار
كم كنت أحب أن ابدأ كلمتي بما نقوله نحن في الكنيسة عندنا عندما نقرأ الكتاب المقدس فنقول: اقرأ من سفر ابائنا الأطهار. تقي الدين الصلح نقرأه اليوم في كتاب عمر زين كأننا نقرأ من كتب ابائنا الأطهار.
كتاب التاريخ
هذا الكتاب يحمل البعد التاريخي الرومنطيقي. فأنت تقرأ شاتوبريان، ميشله Michelet أو فوستل دو كولونج Fustel de Coulange أو فولني Volney أو لامارتين أو كتاب الأزمنة لاسطفان الدويهي أو أمين الريحاني او المطران يوسف الدبس. عمر الزين هو الحكواتي المثير والغير المثرثر، والتاريخي غير المضجر، لأن الشعوب التي لا حكايات لها تموت من البرد La tour de Pin فهو يوسع موقدة الحنين والدفء والعنفوان. تصغي له وكأنه شهرزاد ذكوري نريد أن لا نقتله وهو يروي لنا الف حكاية وحكاية في 1350 صفحة. وعندما تنتهي الصفحات تسأله لمَ اوقف السحر ولمَ توقّف عن الإغواء الأدبي والفكري والتاريخي؟
في البدء كان الرجال
هكذا في البدء كان الرجال والوطن. هكذا كما في البدء كانت الكلمة والكلمة هي الله هذا الكتاب الملحمي هو «السنكسار» أي كتاب حياة القديسين الآباء الأوائل. كم كنت احب أن ابدأ كلامي كما قلت سابقاً عندما نقف على «القراية» في الكنيسة أو في المحراب في الجامع لأقول كان يا ما كان، كان فصل من تاريخ ابطالنا الذين صنعوا لنا مجداً. لنذكر اباءنا الذين ولدنا منهم وتكر الأسماء كما في طلبة جميع القديسين: رياض الصلح، بشارة الخوري، قسطنطين زريق، سلمى صايغ، جورج كفوري، لبيب رياشي، اديب مظهر، امين الريحاني، صلاح لبكي، الياس الخوري، رئيف ابي اللمع، وديع عقل، شارل قرم، يوسف الحويك، يوسف السودا، افلين بسترس، ابراهيم المنذر، محمد جميل بيهم، حبيب تابت (ص 92). جورج الكفوري، كرم ملحم كرم، توفيق الشرتوني، الياس ابو شبكة، فؤاد حبيش، شبلي الملاط، الآنسة كحلا والعديد غيرهم (الصفحات 67، 68، 94). وابتدأت حركات التاسيس في طقوسية سياسية فكانت أول نقابة لمعلمي المدارس الخاصة (ص 60). والحركة العربية السرية (ص 60).
الزجل في خدمة الوطن
ودفع فرقة شحرور الوادي لدعم الاستقلال أي استعمال الزجل والشعر العامي لاستنهاض الناس واثارت عاطفتهم للوقوف والدفاع عن الاستقلال. هذا ما فعله مار افرام السرياني في الجيل الرابع للدفاع عن مريم العذراء. كتب زجلاً وأسسّ جوقة تقول تلك العقائد وترددها في الساحات وفي الكنائس (ص 78 – 79).
هو السياسي الأديب (ص 87).
أسس لطمأنة الموارنة (ص 75)
وحفر الجبل بابرة (ص 84).
«تقي الدين النسمة الرقيقة والبسمة الوديعة والأناقة المتواضعة واللياقة المثال. تعب قلبه من مراد نفسه الكبيرة فتوقّف عن الخفقان في باريس بينما كان على أهبة العودة الى لبنان وصمت صوت ميثاقي، وطويت صفحة مشرقة من التاريخ ملأ بالمجد والنشاط والإنجازات والرؤى» (الجزء الأول، ص 89).
الإهتمامات الكبرى الثقافة وحريّة المرأة
كانت الثقافة احدى همومه الكبرى كالبابا يوحنا بولس الثاني الذي كان يردد انا ابن وطن زال عن الخارطة مراراً ولم ينقذه ويعيده الى ذاته الاّ الثقافة. وأدرك بحسه العميق دور المرأة وتحريرها من الحجاب لتقف ثائرة في ساحة الحرية والكرامة. فمن يقرأ الصفحات 260 و261 من الجزء الثاني يعرف فيه الرجل الرائد العظيم. اذ رحنا اليوم باسم السماء نحجّب نسائنا ونعيدهن الى وأد البنات، فكأننا جاهليين بربرين جدداً ومن نوع آخر لا علاقة للسماء ولا لله بما نقول وبما نفعل.
حين قال: «لم تكن يد سعد ولا يد صفية هي التي نزعت الحجاب عن وجه المرأة وحطمت قيدها وانما هي يد الثورة... انها اجواء الحرية وتحت اضواء الشعلة الوطنية (ص 264-265). وشعب لبنان اليوم مدعو الى نضال جديد وبمفهوم ثوري وروح الفداء (ص 66 الجزء الثاني). وبحنين كبير أذكر صداقته مع الياس سركيس (ص 227) خاصة حين كلفه تشكيل الحكومة (ص 222).
معطوبية الميثاق
معطوبية الحلم أتت من ميثاق لبناني لصيغة هي المولود المخلص للتاريخ من الإرهاب الديني والظلامية الدينية التي وصلت بهذه الهويات القاتلة حتى انها في العراق باسم الدين فصلت الخيار عن البندورة باسم الله، ومنعت بيع المكسرات، واستعمال المقص فقط للحلاقة، ومنعوا اختلاط الأطفال الإناث والذكور وقتلوا، ونحروا وروعوا باسم الله (جريدة الأخبار، الثلاثاء، 27 ايار 2008). تجاه هذا الموقف نجد موقفاً ثورياً جديداً للمؤتمر الذي عقده الملك عبد الله في السعودية وكأنه مجمع فاتيكاني تجديدي للفكر الإسلامي.
لأجل الصيغة اللبنانية التي هي وحدها مثال Archetype التعايش المستقبلي للحضارات والشعوب والأوطان ضد التطهير الديني والتنقية العرقية والدينية ضد الإرهاب الديني والسياسي والأصولي والهويات القاتلة، الذابحة باسم الله وباسم الكراهية الله نفسه الذي اسمه محبة.
هذه الهلوسة التاريخية التي يتكلم عنها هيجل ويرددها احسان شراره في مقاله في اللواء نهار الأربعاء 13/2/2008 فيقول: «تقي الدين الصلح، المحاور اللبق، آخر الطرابيش السياسية اللبنانية. حمل أوجاعه ومعاناته واسراره واحباطه وسافر او اكره على مغادرة الوطن الذي أحبه حتى العبادة. وتحمّل بارهاق الآم البعاد وهول التآمر مع الأرض والناس والقضية، ورحل منهكاً من الصدامات والأوجاع والشوق القاتل الى البلد، الجنة التي لم يحفظها بعض أهلها كما ستسحق بل ارهبوها وارعبوها ودنسوها في بربرية ووحشية لم يقم بمثلها الأعداء والغرباء». لو قرأتم معي قصيدة «عرب أنتم» لياسين سويد (النهار، الأحد 27 تشرين الأول 2002) او كتاب فركور André Vercors «صمت البحر» عن الاحتلال الإلماني لباريس، لشاركتموني ما أقول: «هكذا هم منفيون في اوطانهم يرحلون الى احلام اوليسية Ulysse بأحلامهم يصارعون التنانين والوحوش السياسية الزاحفة».
يقول احمد صبري ابو الفتوح عن عمر الزين في هذا المجال. في مقاله في النهار الجمعة 12 تشرين الأول 2007، انه صياد اللؤلؤ الذي يذكرنا بأحد الآباء المؤسسين للحالة اللبنانية الوطنية والعروبية المشرقة وهو ليس أي واحد منهم. انه حالة النقاء التي لا يكدّر صفوها شيء... انها بيوغرافيا رائعة جمعها عمر الزين... انه الكبر والوفاء كرم وسخاء يقول زهير عسيران في السفير الجمعة 6 تشرين الثاني 2007 «في قلم بهي وفروسية الوفاء» يضيف عصام كرم في وصفه لهذا الموقف.
أما مُنح الصلح فيضيف: «وكان تقي الدين الأديب المسلم المسيحي ممارساً العيش اللبناني الواحد كما لم يفعل أحد... ويكاد الفكر الميثاقي يكون هو الجوهر في حركة تقي الدين السياسية».
النموذج والمثال
تقي الدين الصلح هو النموذج والمثال Archetype.
المؤسس والرائد Fondateur.
الحارس للميثاق، وللعهد وللهيكل، وللوطن المنذور على الحب. حارس الحريات لأنه لا معنى للبنان من دون الحرية ولا ضرورة له ولا قابلية له في الحياة. أكثر من ذلك يقول ان لبنان بلا حرية لا يمكن ان نسميّه لبنان.
تقي الدين الصلح المثال في غنى الأخلاق والمثال في الطفر. ألم يتبين بعد وفاته انه كان لا يملك شيئاً سوى بعض الديون التي اعفاه اصحابها من سدادها؟ مثال في النبل، في خدمة لبنان، في الحرية، في الحب، في الثقافة في الأناقة في الكفاح لأجل حرية المرأة وكرامتها مثال في القلق على المصير وتحمّل وجع فاجعة آخر الأيام.
نهاية الأيام
رجل النبؤات هو!
ألم يقل في كتابه في السياسة والحكم عام 1972: «في الأيام التي تسبق انهيار الدول». بالحقيقة انها نهاية الأيام:
«ماذا تشبه الأيام التي نعيشها ان لم تشبه آخر ايام الدول، أو ان لم يكن بالضبط هي الأيام التي تسبق انهيار الدول؟ الخوف على الحدود من الشقيق قبل العدو. والمؤامرة على الكيان من الإخوان قبل الخصوم. الكلام على الخطر الخارجي وعلى الخطر الداخلي، على الطابور الخامس أو على الطوابير حديث الحماية الأجنبية وطلب الحماية. حديث المخطط الإسرائيلي لتغيير خريطة الشرق الأوسط وتحويل دول المنطقة الى دويلات وكيانات عنصرية وطائفية.... نزوح الشباب بكثرة للهجرة. والصورة القاتمة في الخارج عن الأمن وكساد السياحة».
جملة واحدة كأنها سيف المقصلة
جملة واحدة تختصر حكمة العيش في الزمن الأسود قالها عندما يئست زوجة عمر زين من لبنان وقررت الرحيل وكأنه سيف المقصلة: «لبنان الذي نعرفه لم يعد له وجود». فأجاب بحكمة انبياء Delphe بنبؤة ضد القدر «لطالما بقيت هنا كنيسة واحدة تدق اجراسها فسيبقى لبنان» (الجزء الأول صفحة 13). هذا المسلم ينذر للبنان الميثاق. هذا اللبناني الميثاقي كما ورد في الصفحة 13 من الجزء الأول».
لأجله، لأجل لبنان، لبنان المستقل، العربي، الموحّد، والقائم على الوفاق والحرية، ولهذا لم يكّف حتى رحيله عن التغني بالحرية تلك التي لا يعيش لبنان بدونها (الجزء الأول ص 13) اليس هو الذي قال ان الحرية لها طعم واحد، سواء أكان الذي سلبك اياها ابن وطنك أو اجنبياً»؟ (ص 13).
نعم سنبقى معاً مسيحيين ومسلمين كما قالت رسالة بطاركة الشرق لأنه في كل مسيحي بعض من الإسلام وفي كل مسلم بعض من المسيحية فنحن مسؤولون بعضنا البعض أمام الله والناس.
مات متجرداً كالرهبان
كالرهبان مات أسيزي، وشربلي الزهد فهو لم يكن له من بعده لا حصر ارث، بل طربوش ووثيقة وفاة ولا شيء غير ذلك.
إرثه طربوش أكبر من الأهرامات ومن أعمدة بعلبك كأنه شجرة أرز تستظل النسور أغصانها كما قال النبي حزقيال.
وميثاق بين الشعوب والتاريخ وحده عرف مثله حمورابي في شرائعه وقيصر في امبراطوريته، وتوت عنخ آمون في وحدة الإله راع، وتنوع الناس، وأرض فينيقيا في ثالوثية وتجسد الآلهة إيل وأدون وعشتاروت وفي البانتيون الإغريقي في معبد واحد كثير من الآلهة والأبطال، حتى ذلك الإله المجهول له مكان ينتظره على الأعمدة وفي قلوب الناس.
تقي الدين شكراً لك، شكراً لعمر زين، شكراً لشركة المطبوعات والنشر لأنكم معاً أعطيتوناً زيتاً لليالي تاريخنا والذي عليه تهب رياح الليل، ليالينا لن ينطفىء منها البهاء لأن كل ظلام الدنيا لا يستطيع أن يطفيء نور شمعة واحدة وقد ابتدأ الفجر يطلع مع مجيء رئيسنا الجديد ابن الشجاعة والتواضع والهدوء والتقوى والكف النظيف ليؤسس لولادة وطن الحوار والمعيّة، الآتي من رحم الموت والأحزان الى الفرح والقيامة من القبر، مستلهمين روح تقي الدين الصلح وبقية الآباء والتراث الثقافي والروحي الذي ترّبى فيه وتركه لنا. نعم تقي الدين شمعة في ليالينا وكل ظلام الدنيا لن يستطيع أن يطفيء نور *1شمعة واحدة التي لن ينطفىء منه البهاء لأن كل ظلام الدنيا لا يستطيع أن يطفيء نور شمعة واحدة.
* * * * * * *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق