الجمعة، 20 يونيو 2008

" الله يراني"

جبيل في 17 ايار 2008

اداء : الآنسة جومانا مدور

«الله يراني» هيك كنت تقول
والسما تفتح الك بواب خلف بواب
تحمل بايدك مسبحة وكمشة تراب
ابن الأرز انت من ارض لبنان
خيو لشربل، خيها لرفقا
خي نعمةالله انت يا اسطفان
0000
سماع صرختنا
مساح دمعتنا
دخلك يا اسطفان
شفي جرحتنا
0000
زيح عنّا الهم يا خيي البتول
مرض غرز بالدم، اسمو ما فينا نقول
شفينا، شفينا من هالوجع يا اسطفان.
0000
بايدك حامل مطرح القربان
تراب، مقص، مخل والمساس
صارت الحقلة تحت ايدك مذبح القداس
حط فوقو عيالنا واولادنا
بيوتنا وبلادنا
هات ايدك مد وشفينا
مرضى نحنا وكلنا اوجاع
سماع منا يا خيي سماع
سماع صرختنا
مساح دمعتنا
دخلك يا اسطفان

«بونا يعقوب»


جل الديب في 30 نيسان 2008

اداء : الآنسة عبير نعمه - بمناسبة تطويب الأب يعقوب الكبوشي

عاري القدمين على الدرب تسير ولهيب الله في القلب كبير

طيف عليه الحبل يلتف والثوب الفقير أنتَ بيننا يعقوب للحب أمير

تحمل الجرح بلسم عطف وشفاء تزرع الأرض حضوراً من سماء

نسمة لطف أنت للصم للقطاء للبكم للعرج لمن تشوه للتعساء

في جحيم القهر أو قعر البكاء نرفع الأيدي نصلّي نصرخ بالدعاء

يا صليب الرب يا حبيب القلب اشفع بنا واستمع منا النداء

ملخص عن الأب البروفسور يوسف مونس


  • حائز على شهادة دكتوراة من جامعة ستراسبورغ.
  • رئيس دائرة الإعلام في مجلس كنائس الشرق الأوسط.
  • أمين سرّ اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام، التابعة لمجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في الشرق.
  • أستاذ اللاهوت والأنتربولوجيا والسوسيولوجيا الدينية في جامعة الروح القدس في الكسليك والجامعة اللبنانية، ومُحاضر في عدة جامعات ومؤتمرات عالمية.
  • ممثل البطريرك الماروني في عدة مؤتمرات للحوار الإسلامي المسيحي، وحوار الأديان والثقافات.
  • كاتب ومفكّر منفتح على الحوار ورائد في ثقافة تقبّل الآخر وحوار الأديان والحضارات.
  • طارح فلسفة «المعيّة»: أي أن نكون معاً والعيش المشترك.
  • معد برنامج «أعز الناس»، و«شهود» و«أنا والعذراء» في تلفزيون تليلوميار ونور سات لمدة اربع سنوات.
  • رئيس جامعة الروح القدس الكسليك سابقاً، ومبادر الى التعاون مع الجامعات العربية والغربية.
  • عميد ومؤسس كليّات الهندسة والفنون الجميلة والزراعة والآداب سابقاً في جامعة الروح القدس الكسليك، ومعهد علوم البيئة، ومعهد التمريض.
  • معه تفرّعت جامعة الكسليك الى الشمال والبقاع والجنوب.
  • مؤلف كتب: «الشخصية اللبنانية»، «كلمات من وحي الروح»، « بين البطولة والقداسة».
  • كاتب لأكثر من 34 مسرحية.
  • ديوان شعر: «الرؤيا». «أناشيد الحزن والرجاء».
  • حائز على وسام الدولة الفرنسية من رتبة فارس.
  • حائز على وسام السعفة الثقافية للدولة الفرنسية.
  • حائز على جائزة كمال المر.
  • عضو شرف في المكتب العالمي للصحافة الكاثوليكية.

مي المر «كاهنة الهيكل»


«حارسة الهيكل» عرفت ان ساعتها قد أتت في زمن القيامة وهي بنت القيامة فرفعت أشرعتها «لتصل الى الميناء» مع البحار الإلهي يسوع فأشعلت مجامر الإيمان وشموع العشق الإلهي وفتحت الكتب ورفعت الأختام وأخذت تفك الألغاز عن التاريخ وقرأت كتاب الله في كتاب «إيل» ولبنان والإنسان وحملت الجمرة المقدسة الكاوية شفتيها بمجد لبنان فصارت عندها الأسماء المقدسة الثلاثة مزموراً مدى الحياة: الله، يسوع، لبنان. ورحلت أي انتقلت الى الضفة الأخرى للوجود الحقيقي.

هي الأم

هي الأم، ماتت في عيد الأم، من عيشها مع زوجها فردي أقبل لنا المبدعون والملهمون والأدباء. هي بنت للتقديسات الثلاثة ، رحلت في زمن الأناشيد القيامية القائلة المسيح قام من بين الأموات، وأدون قام، حقاً قام. كانت تردد الترانيم الأدونية الجبيلية الفينيقية متذكرة الإله إيل البعل الأكبر والإبن الجميل البهي الطلعة إله الحياة والخصب والموت والقيامة أدون تموز، والام الالهة عشتروت في خصب عودة الغلال والفصول والحياة والربيع، في انتصار دائم على الفناء والموت. الإله يسوع يضع صليبه في القبر ويضج القبر فارغاً. لا موت بل حياة لا تفنى. إنه الرجاء المسيحي. أتت من الرجاء، عاشت في الرجاء وذهبت الى الرجاء. «ورجائي، عظيم لأنه حي إلهي».
سيدة المجد
مي المر بهرها المجد الإلهي والبهاء. فعيناها محدقتان الى لبنان وتاريخه كقبة ارثوذكسية يتجلى فيها الله أو الديسيزيس Deisis، او تحدقان الى ايكونوستاز iconostase يحكي قصة الإيمان والعشق الإلهي فتتحوّل فيه الأجساد ايقونات ضياء يعطرها بخور الصلاة.

مي المر شاعرة تصلّي

مي المر شاعرة، أديبة، مفكرة تصلّي. وتفيض بالحديث كيف تصلّي؟ إذا تكلمت عن الفرد زوجها فهي تصلّي، وعن أولادها، تصلّي، وعن وطنها لبنان تصلّي وعن الله تصلّي. يوم كنت معها في تلفزيون M.T.V. أحاورها عن الله ولبنان ويسوع وهي طلبت ذلك مني كانت ناراً لاهبةً وموجاً جارفاً من المعرفة والعلم والحب. وكم حاولتُ معاكستها والشك بمقولاتها فانفجرت بركاناً هادراً جارفة البراهين جرفاً والحقائق والإثباتات كعاصفة من المعرفة والمراجع والوقائع والقرائن. فإن شئت أن تعرف كيف يكون عشق مجد تاريخ لبنان فاذهب الى مي المر، إذا شئت أن تصلّي قصائد الحب فاصغِ الى مي المر، إذا شئت أن تغرق في العشق الإلهي فلتأخذ مي المر بيدك كطفل صغير وادخل معها الى مزامير الصلاة في مناسك الحبساء والمتصومعين وعلى مد عيونهم صحراء الرمال أو الجبال أو الثلوج.

اسرعي قبل الرحيل

وكم حاولت أن أقول لها صعب علي أن أصدق ما تقولين. فكانت تجيب أنت تصدّق يا بونا وتعرف ولكنك تريد مني أن اعطي ما عندي من البراهين التي اكتشفتها وأنا أتفرّد بامتلاكها. كنت أقول لها وكنت أعرف انها مريضة وسيأتي يوم يغلبها فيه الموت وكنت أقول لها: هذه هي رسالتك الأخيرة. لم يبقَ عندكِ وقت: قوليها. وكنت أقول لها لا أجمل من كتاباتك عن «يسوع ولبنان»، أسرعي قبل الرحيل، اطبعيها. وهكذا كان. مي المر اعصار من المعرفة ومجد وفخر لأيامنا الرتيبة التافهة. هي والكثيرات من اخواتها الرائدات وقفنَ أمام ايكونوستاز الجمال الإلهي ينشدنَ أناشيد العشق الإلهي بصوفية تتشح بالنبؤة ولهب صلاة المتنسكين في الليل ينتظرون وصول السيد. مي المر «كاهنة الهيكل» سنقرأ في كتبك عندما سنقيم صلوات الليل والصبح لأجل مجد يسوع ولبنان والحب والجمال والمعرفة والعلم. حملنا على أصابعنا الجمرة اللاهبة وعلى شفاهنا الجمرة المقدسة الكاوية ونحن نرتّل تقديساتنا الثلاثية: الله، لبنان، والحب والجمال.
* * * * * * *

«المير ميرنا»

طبعت في14 ايار 2008

عندما كنت صغيراً كانت أمي تقول لي «يا ابني المير ميرنا» وكانت تعني الأمير مجيد ارسلان، «نحن يا ابني يزبكية». وكنت اعتقد أن اليزبكيّة هي أحدى المآكل الطيبة كـ «العثمليّة» أو «الملوخية». وكانت أمي تقول ذلك صباح مساء وكل مرة جلسنا على طبق العيش، كانت تصلي وتُصلّب على الأكل ثم تلتفت إلينا وتقول "ما تنسوا يا ابني نحن يزبكية والمير ميرنا". وكبرت وأنا أقول المير ميرنا. وصار عندي صداقات مع الجنبلاطية والشيعة والسنة افتخر بها وصرت أعرف أن اليزبكية والجنبلاطية هما جناحان بجسم واحد وهم الموحدون الدروز اهل الكرامات والقيم والشيم يعيشون في جبل لبنان بالحشمة والزهد وبالعائلة القائمة على عدم تعدد الزوجات والاكتفاء بالعيش من فلاحة الأرض وعرق الجبين ، وللغوص في ميادين الثقافة والعلم والمعرفة والحكمة.
وكانت تسحرني في قريتي الشبانية في المتن الأعلى عمائم المشايخ الأكارم الذين كانو «أعمامي» والطرحات البيض على رؤوس النساء اللواتي كنا «خالاتي».
وفي الأحداث الأخيرة عاد «المير مير» مع الأمير طلال إرسلان وعاد البيك بيك مع وليد بك جنبلاط. والموحدون الدروز أهل الجبل وجبل الكرامات والحكمة والمعرفة. أعاد إلينا الأمير طلال إرسلان بنبله ووقفته الشجاعة مع وليد بك جنبلاط وقفة الأمراء والنبلاء وأعاد الينا وليد بك جنبلاط وقفة الكرماء حقناً لدماء أهل الوطن تحت عاصفة الجنون. فألتف أهل التوحيد على بعضهم البعض مع «مشايخهم» وعلى رأسهم الشيخ نعيم حسن يتلون مزامير الحكمة والوحدة «للوطن الغالي لبنان». يسمونه وكأنهم يعيدون عماده بقيم الشيم المعروفية التوحيدية وبالأخلاق الحميدة مستذكرين الأسلاف والأجداد ليعيدوا إلى ذاكرتنا صور مجد سلوك الآباء وقد سلكه اليوم الأمير طلال إرسلان ووليد بك حفاظاً على «الطائفة» وعلى الجبل الامير طلال أعاد إلينا صورة الأمراء النبلاء والفوارس وجدّد أمامنا قيم «البيوتات العريقة» بما فيها من شهامة وعزّة نفس وآباء. إذاً إن عزة النفس لا تنبت في الصباح، كما زهر البلان والجربان لتزول مع المساء، بل هي تدوم كما شجر الأرز والسنديان على مر السنين والأيام.
نعم عادت إليّ اليوم «اليزبكية» «أكلةً» طيبة من زمن طفولتي في قريتي وأنا صديق للجنبلاطية وأهل الشيعة والسنّة، «أكلة» طيبة من الكرامة والرجولة والحبّ والسلام وطبقاً كريماً من العيش المشترك بحريّة وقبول للآخر في تمايزه وحقه بالافتراق في لبنان هو هذا الطبق الطيّب. انها «أكلة» الأمراء، أمراء الجبل الذي أنا منه وعشت في ظل صنوبراته في المتن الأعلى وما زال على مدّ عيني «طابيه».
جدي كاهن القرية، تمتزج بعمائم المشايخ والطرحات البيض على رؤوس أو أكتاف النساء.

وقام في اليوم الثالث

الله والإنسان

كل شيء قد انتهى. إنه هنا معلّق على الصليب هذا الذي طرد الباعة من الهيكل وقلب موائد الصيارفة ودخل كملك الى اورشليم واستقبله الشعب بالهتاف «هوشعنا للملك ابن داود». ظن اليهود انهم ارتاحوا منه. لكنه يخيفهم في قبره ويرعبهم وقد طلبوا حراسة القبر. القبر فارغ حسب المنطق اليهودي. كيف يكون القبر فارغاً وهم رأوه يموت على الصليب.؟ حسب المنطق اليهودي لا حياة بعد الموت. لا قيامة. لا حياة مستقلة عن الجسد. فأين ذهب الجسد الذي أنزلوه عن الصليب؟ هذا شيء غير معقول إذا كان يسوع لم يمت حقاً. واذا كان قد مات حقاً فإن تلاميذه شرقوه. لكن يوسف الرامي أنزل الجسد ووضعه في القبر الذي أعده لنفسه. «أخذه» «تسلمه» حمله ودفنه. غريبة هي أدوار الأشخاص الذين أحاطوا بيسوع. «يوسف» المربي خطيب مريم قدم نفسه «كحارس للفادي». ويسوف الرامي في نهاية حياة يسوع أنزل الجسد وهو الذي سيدفنه، أعطاه القبر. ومريم تعطي أحشاءها، سمعان، القيرواني يعطي كتفه لمساعدته. غريب كيف ان الله «يشحد» كل هذه المساعدة والمعونة. كأنه وهو الخالق العلي القدير «ينقصه» أن يكون الإنسان معه. والمرأة تسكب الطيب على قدميه، وأخرى تعطيه ليشرب وأخرى تمسح وجهه بمنديلها هل الإنسان هنا يساعد الله؟ أحقاً هو هذا؟ الخالق أصبح كأنه بحاجة الى المخلوق. الصانع المبدع الى صنيعته؟ أي منطق هو هذا؟ القيامة قلبت منطق الأشياء.

قلب منطق الأشياء

القيامة لم يرها أحد. بل رأوا القبر الفارغ والبهاء والنور والملاك. الحراس: «ارتعبوا وصاروا مثل الأموات» (متى 28/4) ولم يلاحظوا القيامة. الملاك يقول «انه ليس هنا انه قام» (متى 28/5-7) انظروا يدي ورجلي هذا أنا» (لوقا 24/37). يقول القائم من الموت. وتحدث الصدمة الكبرى. يسوع «المضل»، الدجال»، «الساحر»، «الكاسر للسبت والشرائع» الذي شطبوه من الزمن التاريخي والسياسي و«ارتاحوا من شره» عاد وأقبل واطل من الزمن الإلهي. لأن مملكته وملكه ليس من هذا العالم. وهو ملك وهو آتٍ «أنت قلت». فأخذ يسوع يشطب مفاهيم العالم اليهودي ويشطب أسس المملكة الرومانية ويحول قيم الإنسان: أنا أقول أحبب عدوك وأحبب من يبغضك. واصبح يسوع ملك العالم الحقيقي ملك الحب. والعاصمة الجديدة هي قلوب الناس بالروح والحق والحب. اورشليم الجديدة اخوّة الناس فلا حدود عرقية ولا ارضية بل عهد حب جديد، عهد للبشرية جمعاء وليس لشعب او قبيلة. الإختيار كوني وهو لجميع الناس وليس لأناس فقط. القيامة قائمة. كل شيء تحوّل وتغير. والإنتظارات انقلبت رأساً على عقب، الشعب ليس هو والأرض ليست هي، والناس ليسوا هم والموت هو الحياة والقبر قيامة والحب شريعة العالم الجديد بالتراحم والحنان والمحبة. العالم القديم يتهاوى. الوحش يموت. يسوع قام من بين الأموات وبعث الحياة في «أجسادهم الفانية بروحه الذي يسكن فيكم» (رومية 8/11).

لا نترك اجسادنا ومراكبنا

نصل الى القيامة سيري ايتها المراكب الجسدية الأفلاطونية الى القيامة. لا نترك اجسادنا ومراكبنا ونعبر بأرواحنا الى الشمس والحقيقة. لا فناء بعد الآن. المراكب تصل الى الميناء مع البحار يسوع الذي ترك مرساته في الأزلية وأتى الى العالم وها هو الآن يعود بالموت والقيامة. لأنه لو لم يقم لكنا أشقى الناس. لكنه قام من بين الأموات. القبر فارغ يقول الملاك (متى 28/1-10) لقد قام. والتلميذ يوحنا رأى وآمن (يوحنا 20/9) أما عند لوقا ومتى ومرقس فالشاهد هو الملاك والنساء آتيات الى القبر مع الفجر حاملات الطيب والسؤال في قلبهن من يدحرج لهن الحجر؟ القبر هناك. القبر عليه شاب، ملاك، عليه توب أبيض. نزل ملاك الرب زلزل كل شيء قلب الحجر الكبير كقشة صغيرة. قام السيد من القبر لفّ الأكفان ومضى. منظر الملاك كالبرق. ملاك الرب هناك كما كان في ساعة الميلاد. يبشر بالحدث العظيم. فحدث الميلاد وحدث الموت والقيامة واحد الأكفان هنا تلف الجسد وهناك ملفوف جسد الطفل بالكتان.

اليوم يوم جديد

فصح جديد يقول يوحنا فم الذهب. السبت قد مضى وزال وأتى الأحد. الأحد الكبير، الأحد الجديد. الأرض تزلزلت والقبر انفتح. كما تفتحت القبور ساعة الموت؟ الهيكل انشق حجاب الهيكل. يسوع هو الذي دخل العلية والأبواب موصدة محكمة الإغلاق. لم يوقظ يسوع الملاك كما اوقظه الرسل في السفينة. الملاك مجلل بالمجد السماوي بالأبيض. الإنتصار على الموت سر العلّية، سر الخروج من الخوف الى القوة، سر الكونية والشمولية سر يسوع الآن انه يأتي ليقف في الوسط، في قلب الكنيسة والعالم والجماعة يلقي السلام ويرينا يديه مع اثار المسامير وجنبه وآثر الرمح. (لوقا 24/36-43) يسوع حاضر في وسط الكون في وسط الجماعة: انه «مختار الله» (يوحنا 1/34) «المسيح» (يوحنا 1/45) «ابن الله» (يو 1/49) «المعلم الإلهي» (يو 3/2) «مخلّص العالم» (يو 4/24) المسيح ابن الله «النبي» (يو 6/14).

نحن شهود القيامة بالمحبة

نحن شهود (اعمال 10/39-42). نحن اليوم خلق في المسيح جديد بالمحبة. جدد الله البشرية بالمسيح وأصلح ما شوهته الخطيئة والمعصية. إنه الإنسان الجديد لبشرية جديدة لا عودة الى بربرية الفكرية والدينية والأصوليات المتوحشة والهويات القاتلة بل الى انسان حدوده اللاحدود وحبه لامتناهي وسائر الى الجمال والحب والخير والحق والخلاص. فإن اعترفنا ان يسوع هو رب وانه قام نخلص. «ان اعترفت بفمك ان يسوع هو رب واذا آمنت في قلبك ان الله اقامه من بين الأموات. تخلص» (روما 10/9). فيكون لنا الخلاص ونحن ننشد المسيح قام حقاً قام! وملكوته هو ملكوت السلام والمحبة.
* * * * * * *

«المطران رحّو» أو العراق الجديد

محمد السمّاك وميثاق الرسول

أثار صديقي الدكتور محمد السمّاك بنضب مقدّس كما عادته في كل مرّة يُساء الى المسيحيين والمسلمين في جريدة المستقبل 17 آذار 2008 في عنوان صارخ «اغتيال المطران رحو اعتداء على الإسلام» وأشار الى العهد النبوي الداعي الى الذود عن الأساقفة والرهبان والسوّاح والكنائس وبيوت العبادة والحفاظ على هذا الميثاق «من خالف عهد الله واعتمد الضد من ذلك فقد عصى ميثاقه ورسوله» وإن جريمة القتل تعتبر انتهاكاً ليس فقط لحق انساني مقدس في الحياة إنما انتهاكاً لنص إلهي مقدّس ايضاً واعتداءً على حرمة الإسلام وإساءة إليه تستحق كل ادانة وكل الشجب والإستنكار». هذا الإستنكار أكد عليه الأمير حسن بن طلال.

الأمير حسن وأصالة المسيحيين

الأمير الحسن بن طلال، رئيس مجلس أمناء المعهد الملكي للدراسات الدينية في عمّان أعلن: «ان اختطاف رئيس الموصل للكلدان المطران بولس فرج رحّو وقتل ثلاثة من مرافقيه يُعد عملاً خارجاً على كل مبادىء الإنسانية المشتركة، وتسيء الى قيمنا الدينية، وميثاقنا السلوكي». ويُضيف: «إن المجتمع المسيحي الضارب الجذور في تاريخ هذا البلد المنكوب يقف شاهداً منذ القِدم على الإحترام المتأصل لإخواننا في الدين أهل الكتاب الذين استحقوا حبنا وحمايتنا منذ أيام الرسول صلّى الله عليه وسلّم». وقد صدر في هذا المجال وفي النهار مقال صارخ هام للشيخ محمد بشير الفقيه تحت عنوان: «مسيحيو العراق هم ضمانة العراق الحر المنسي» (الشيخ محمد بشير الفقيه، النهار 15/3/2008)

الإستنكار شامل

الإستنكار كان واسعاً في السابق مثلاً في 16/10/2004 حين فُجرت 5 كنائس. وتلا ذلك عمليات قتل وخطف وترويع. بين بغداد والبصرة والموصل جنون أصولي راح يطاول كرامات الناس وحرية المعتقد وحرية المرأة المسيحية وكرامتها بالضغط عليها لإرتداء الحجاب ومنع العديد من الطلبة والطالبات خاصة في الموصل من متابعة الدراسة بسبب المضايقات العدوانية والممارسات الإرهابية. فما هو تفسير هذه الأحداث؟ (الشيخ محمد بشير الفقيه، النهار 15/3/2008). فهل يفلت المتزمتون ويعرضون على العراق شريعة القتل والذبح وحرق دور العبادة في موجة من الكراهية لا تليق بهذا البلد الكبير الذي فتح قلبه وذراعيه للجميع. ومنه كان حمورابي وابراهيم واشوربينيبال ونبوخزنصّر والخلفاء الراشدون وأمراء الترجمات المسيحيون. وجذور العراقيين ضاربة في أعماق العراق كما يقول الدكتور سيار الجميل (جريدة الإتحاد، الأحد، ايلول 2003) وكما قال الرئيس نبيه بري: مسيحيو الشرق لا يُكافأون بالقتل (السفير 18/3/2008).

قربان الأبرياء

إن استشهاد المطران رحّو هو انتصار للحق. وهو كان فداء للعرب والأكراد والمسيحيين والمسلمين وهو ينضم الى كل الأحرار الشهداء ومنهم 272 صحافياً والآف الأبرياء من النساء والأطفال والرجال والكهنة والعلماء ورجال الدين. ولقد عبر البابا بندكتوس السادس عشر عن صدمته ووصف هذا العمل «بأنه عنف لا انساني». وقال نور المالكي: إن مقتل رجل الدين جريمة بشعة. كما استنكر السيد فضل الله خطف المطران. والرئيس جورج بوش قال عنه إنه «عمل حقير». إنها جلجلة جديدة وكربلاء جديدة لكن خطف المطران وقتله يأتي في رحابة الكلمة القائلة. سيأتي يوم يظن من يقتلكم انه يقدم قرباناً لله». وهذه الشهادة هي شهادة محبة ومغفرة ومصالحة. هذا الموت هو زرع للحضور المسيحي وللوجود الإنساني الكريم الحر ولا فرق بين من يقتل طفلاً بريئاً في غزة وفي جنوب لبنان وفلسطين ومن يقتل اسقفاً كبيراً في العراق. كنيسة المشرق هنا أرض أبِ الآباء ابراهيم وواضع الشرائع حمورابي أرض الأخوة والتسامح هل يمكن أن تصبح أرض اوروكلده وبابال أرض البربرية الدينية والتوحش الإنساني بالإصغاء الى أمراء الجريمة والجهل والتعصب الديني؟ هل نحن نسير قرب دجلة والفرات ونحن عطاش الى ماء الحق والحرية والكرامة والسلام؟ لن يهجر المسيحيون من العراق وهم العرب الأقحاح وإن لم يكونوا بسنة ولا أكراد ولا شيعة. الشرق مضروب بوباء التعصب والتطهير الديني والعرقي.
الشيطان يقرع باب الشرق

الضحية تفدي الجلاّد

مات المطران رحّو فزغردت له النساء ساعة موته لأنها كانت ساعة الحياة والفرح والقيامة. إنه عرس الحياة والفداء وليس عرس الموت والحقد والكراهية. العراق حمل أغصان الزيتون ونثر الورد وترانيم السلام والمحبة وأصغى دجلة للصلاة والفرات للدعاء وعادت الى العراق رحلة التسامح والحرية للذي أسس جماعة المحبة للإحتياجات الخاصة وأصدقاء يسوع للأعمال الخيرية وأصدقاء الناصرة للعائلات الجديدة وواحة المحبة والفرح للأيتام.
إذا كرّمت الكنيسة المارونية والملكية والأرمنية واللاتينية والأرثوذكسية اليوم ابرارها وقديسيها على المذابح وبقي الكثيرون منهم من الشهداء خاصة في أزمنة الإضطهاد والحروب فالكنيسة الكلدانية والسريانية والأشورية والإنجيلية لها الفخر بأن ترفع شهداءها اليوم على المذابح ومنهم المطران رحّو ورفاقه ومن سبقهم من الأبرياء والأنقياء والأبرار والصديقين وخدمة شعب الله والساهرين على أمن الناس وخدمتهم. هؤلاء هم ضحايا الحرية والحب والسلام ونحن معهم نصلّي:
أللهم اجعل حظنا مع الضحايا وليس مع الجلادين لأن الضحية تفتدي جلادها وتفتدي نفسها. دمها يطهّرها ويطهر قاتلها.
لكن مأساة العراق هو هجرة أكثر من مليونين من أبنائـه الى خـارج أراضيه (700،000 الف في سوريا؛ 50،000 في لبنان؛ الأردن 700،000 الفاً؛ في مصر 80،000 الفاً) (البلد 3/4/2008) وهؤلاء العراقيون يعملون أكثر من عشر ساعات في النهار ويُدفع لهم 200 دولاراً شهرياً! يا للظلم! العراق الذي فتح أبوابه لكل العرب وتركهم يعملون فوق أرضه دون إشارة دخول أو إذن بالعمل (البلد 3/4/2008). يوصد العرب أبوابهم وحدودهم بوجه العراقيين. والمفجع في كل هذا إن العراقيين يقتلون بعضهم بعضاً بقساوة ووحشية.

جلسنا على أنهار بابل وبكينا

لن نجلس على أنهار بابل ونبكي كما يقول المزمور «جلسنا على أنهار بابل فبكينا» بل سننشد فرح القيامة والمحبة ويزهر النخيل، وتجري مياه دجلة الحضارة ولو سقطت أجساد الأنقياء تحت سيوف المتعصبين وتناثر لحم رسل السلام والمحبة أمام جنون القاتلين الذاهبين الى الجحيم وليس الى السماء. الأيدي المقطوعة تقول لا! الأفواه المفتوحة تقول لا! الأعين الجاحظة النابعة دماً تصرخ لا! الأرجل والأجساد المفككة تقول لا! صراخ الأطفال، عويل النساء، أنين الرجال، جرح الدم، نهر سلام وحب سيجري في صحراء العراق ومع نهري دجلة والفرات.
وللقتلة نقول لن توقفوا جريان نهري دجلة والفرات ولا مسار الريح فوق رمال الصحراء هناك بين النخيل ولا أناشيد الفرح والشعر والفكر والخمر. لن توقفوا النيل والأردن وبردى ولا تساقط الثلج فوق جبال لبنان. لن توقفوا الحرية والحياة والحب. اغتسلنا بماء عمادها وزرعت فينا السلام وحفرت حروفها اللاهبة في قلوبنا، صار الموعد هو الله. وهو الحب! أرض المشرق، من العراق، تغيب الشمس، عن تخوم العالم كله لكنها في العراق تشرق كل يوم مرتين، في الصباح وفي المساء لأن أسد بابل يمسك بيده الشمس والقمر، والبطل جلجماش يحمل خبز الحياة، والمشترع حمورابي يوقف الشمس على لوحة وصاياه التي كتبت عليها كرامة الإنسان وكرامة المرأة وحقوق الفقراء والبسطاء قبل أن يصل الى هناك مجانين الله.
المطران رحّو رسول محبة ورسول حضارة بلد عظيم. نصلّي لأجله وليفيق المتعصبون فيه بإسلامهم الكافر الذي لا يفترق بشيء عن اليهودية المتعصبة القاتلة أطفال فلسطين وغزة وجنوب لبنان. انها البربرية نفسها. إنه التوحش الإنساني نفسه ولن نقبل له أن يتقنع بقناع إلهي مقدّس باسم الله والاسلام. فمن دم المطران رحّو ومن دم أمثاله من مسيحيين ومسلمين وأكراد سيولد عراق جديد وشرق جديد وعراق جديد. وأنا أرى أرضاً جديدة وسماءً جديدة، كما يقول سفر الرؤيا.
* * * * * * *

اللباس الليتورجيّ في الأنتروبولوجيا

الإثنين 31 آذار 2008
الساعة الخامسة مساءً في قاعة المؤتمرات في الجامعة

نعلم أنّ «الطقوس قوّةٌ ملزمةٌ تضغط على الفرد، وذاتُ وظيفة تقوم على تعزيز اللحمة المجتمعيّة». الطقس هو الأساس في أية عملية انتمائية وحفظ للهوية والذات الإجتماعية والإفتخار بالجماعة وعظمة تاريخها وتقاليدها ولبسا ومأكلها وفولكلورها وثقافتها وتراثها الحضاري وجمال بيئتها وجغرافيتها وفرادة رسالتها الحضارية والإنسانية وعظمة آلهتها واناسها. «الفن في خدمة الإحتفال» (كما ورد في الإرشاد الرسولي «سر المحبة» ص.ص. 60-62، 2007)
البحث يتركّز على الأصول والجذور والوظيفة وليس عمّا تراكم حولها من شروحات ورموز، وما أعطي لها من معانٍ وشروحات.
وهذه الطقوس يرافقها شعائر معيّنة وأناشيد ورقص وحكايات وتماثل وتماهٍ مع المعبود أو مع الذي تُقام له الإحتفاليّة. ويرافق كلّ هذا لباس وأدوات وأقنعة وصولجان وقصب وريش وصفد وعظام وأنياب، أو ما يُسمّى زينة الإحتفال، أو الثياب المناسبة للإحتفال أكان تذكاريّا: موت وانبعاث الإله، أو الإستعداد للحرب، أو لحفلة صيد، أو رحلة في الأدغال والبحار، أو الإستعداد لعرس، أو زفاف أو إقامة مراسم موت، أو عزاء، أو طقوس استسقاء، أو قطاف، أو طرد أرواح وسواها.
لا يتمّ شيء في حياة الناس العاديّة أو غير العاديّة، المألوفة أو الخارجة عن المألوف إلاّ ضمن أطر طقسيّّة تؤطّرها المحرّمات والممنوعات والتابوهات، أو تسيّرها المسموحات والمقبولة، أو تقمعها وتبطش بها الضواغط الروحيّة والإجتماعيّة والثقافيّة، حاملةً الويلَ والعقابَ أو البركةَ والثوابَ لمن يقوم بهذه الطقوس.
من الطريقة العاديّة للسلام بين الناس، أو إلقاء التحيّة، إلى طريقة الأكل واللبس، إلى طقوس دفن الأموات وطريقة إقامة الأعراس، إلى الإحتفال بعيد ميلاد، إلى التهنئة البسيطة بالنجاح أو بالتعزية. كلّ شيء له مفاعيله، وله أصوله، وله طقسه، وله لباسه وله طريقة وشعائر ممارسته.
الطقس يعبّر عن الأبعاد الإيمانيّة والروحيّة واللاهوتيّة لحياة الجماعة. إنّه الجسر الذي يعبر عليه الماورائيّ الى المرئيّ، واللامنظور الى المنظور بعلاقة الآلهة مع البشر، وبطريقة احتفاليّة تتمّ بالتذكارات والاحتفالات والأعياد. إنّه الإرتباط بقوّة أعلى منه. الإنسان لا يعرف الله في ذاته بل يعرفه في تمظهره وكشفه من خلال كلّ الرموز الطقسيّة والدورة السنويّة للأعياد.
الدوافع الكبرى هي الإتّكال على الله أو على هذه القوّة الحامية، المعتنية، الحافظة. الانسان لا يُطيق إطباق حدود الكون الضاغطة عليه. هذا الفرد التائه والعرضة للمرض والموت والجوع يبحث في قعر ذاته عن معنًى لوجوده، وعن دوافع للفرح والرجاء والبقاء. يحلم بالبقاء، يتوق إلى السماء فيقيم طقوسَ الموت والحياة التّي تجعله يصرع العدم، لأنّ الألوهة صفة أساسيّة من صفات الإنسان، ولا يبقى الانسان في الغربة ووحشة الوجود.
أهمّ أفق لهذه الطقوس هو الرجاء، الرجاء. بالخير والأفضل، بالسلام والرفاه الانسانيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ. لا يجب أن نجهلَ الإرثَ الأخلاقيّ والروحيّ والدينيّ للشعوب وإلاّ اقترفنا جريمةً بحقّ الثقافة. اقتلاع الجذور هو فقدانٌ للمعنى، وإضعافٌ لرباط الهويّة والإنتماء، لذلك علينا أن نقيم رباطاً قويّاً مع مسيرة ثقافتنا.
الذي يهمّ هو هذه الحاجة العميقة إلى ايجاد معنًى للوجود وللحياة. هذه الطقوس تُجيب على الأسئلة الجوهريّة للكائن البشريّ حول معنى الحياة ولغز الموت. التطلّع هو بُعدُ يتجاوز لغزَ المادّة وحاجات الحياة. إنّه نداء الرجاء. الطقس يحقّق نداءات الرجاء والفرح. هذا الرجاء يقول إنّ اللامتناهي هو الوحيد الذي يكفيه والذي هو الجوهر، ولا يمكن انتظاره من السلطات السياسيّة والإقتصاديّة. الفعل الروحيّ هو ميل طبيعيّ لجميع البشر الى البحث عن تسامٍ ما.
في بحثنا، سنتوقّف فقط على درس لبعض الملابس الطقسيّة. لن ندرسَ جميع الملابس وجميع الأدوات في رمزيّتها ومعانيها و«ليشيّاتها»، أو ليش هيك؟ أو «لمذا هذا»؟
سأنطلق من المدارس الأنتروبولوجيّة التي حاولت أن تقدّم لنا، وكلٌّ منها وجهة نظرها، مقاربة خاصّة لشرح الظواهر الإجتماعيّة والمكونّات الثقافيّة والنفسيّة لكلّ مجتمع انطلاقاً من مفاهيمه للحياة والموت، ومن ارتباطه ببيئته ومحيطه الجغرافيّ والثقافيّ، وتواجده على معابر الطرق والأنهار ومرور القوافل والغزوات والأمطار، أو من انعزاله في جبله أو عمق أدغاله وصحرائه.

القسم الأول

بين المدارس الأنتروبولوجيّة، نرى في المدرسة الإنتشاريّة الجوابَ الذي يقول إنّ عنصراً من عناصر الثقافة ينتقل من مجتمع إلى آخر، ويصبح مكوّنا أو بنية من ذات ذلك المجتمع. وهذا الإنتشار ينتج من سبب الغزوات الثقافيّة أو الحربيّة، أو انتقال جماعة من بيئة الى أخرى بسبب الهجرة، أو السعي لعيشٍ كريمٍ وحرٍّ، وكما يقول هركوفيتس: «الندرة والإصطفاء (مدخل الى علم الأنتربولوجيا، ص 324).
يحدث هذا الإنتشار تحت ضغط الإحتكاك الإجتماعيّ، وبدوافع الجاه والنخبويّة أو تحت القمع السياسيّ والدينيّ والفنيّ والثقافيّ وسواها.
أمّا في المدرسة البنويّة بخاصّة مع لِفي ستراوس، فإننّا نجد تحت تراكمات البنى اللغويّة والعادات والتقاليد والأساطير و«الميتة»، والنَي والمسلوق، بنيّة أساسيّة عليها نسجت، وعند كلّ الشعوب، وبطريقتها الخاصّة، واختباراتها الذاتيّة، قصّة واحدة لبنية واحدة تفرّعت وتنوّعت من الخلق، إلى النهي، إلى العصيان، إلى العقاب، إلى التوبة، إلى الخلاص.
«اعتمدت المدرسة الانتشاريّة اعتماداً مبالغاً به، على ما يقول: (ج. بوارييه) (النياسة العامّة، ص 46)، على مسلّمات، «فالمسافة الجغرافية، لا أهمية لها بالنسبة للانتشار، مهما كانت كبيرة». ونادراً ما تنظر الانتشاريّة الى الانسان باعتباره خلاّقاً ومبدعاً. ويتلّخص تاريخ البشريّة، والحالة هذه، بسلسلة من الاستعارات الثقافيّة، انطلاقاً من بؤر معيّنة تولّت بثّ الحضارة ونشرها. لقد شاعت هذه الأفكار واستمرّت وقتاً طويلاً في المانيا، ثم في انكلترا، أكثر من استمرارها وشيوعها في الولايات المتّحدة. وقد دأبت المانيا بشكل خاصّ على التوسّع بالنظريّات الانتشاريّة بسبب الدور الذي اضطلعت به بعض المؤسّسات، كمعهد انتروبوس، الذي شكَّلَ امتداداً لأفكار غرابنر، وخصوصاً لأفكار الأب فلهلم شميث (1808-1954) الذي أنشأ مدرسة فيينّا هو وتلامذته. وكان شميث أميناً لأفكار مدرسة «الدائرة الثقافيّة»، فضلاً عن أنّه ناهَضَ أفكار التطوّرييّن الذين ذهبوا، كتيلور مثلاً، إلى أنّ التوحيد لا وجود له البتّة لدى البدائييّن، وسعى بدراساته حول «البيغمة» الإفريقيّين إلى إقامة البرهان على أنّ أقدم الأقوام الغابرة التي تعيش من القنص واللقاط كانت بلرغم من ذلك على معرفة مُبكرة بالإله، وقلّما كانت تؤمن بالطوطميّة والسحر. فقد كان يرى أنّ فكرة الإله الأكبر موجود منذ بداية البشرية» (مدخل الى الأنتروبولوجيا، ص 129-130).
أمّا المدرسة الوظائفيّة، لاسيّما ريكليف براون وتلميذه Malinowski، وهذا ما يهمّنا في دراستنا، فهي المدرسة التي تقول إنّ لجميع البنى الإجتماعيّة والحالات الثقافيّة، والطقوس، والشعائر، والكلمات وظيفة محدودة تعطيها الحياة، طالما أنّ المجتمع يتعامل معها. لكنّها تأتي أيّام لا تعود لهذه الشعائر والطقوس حاجة، فتسقط وتموت ليقوم مكانها شعائر وطقوس بديلة تلبّي حاجة المجتمع.
وكانت هناك حركات تفكيكيّة وتركيبيّة، تعرّضت لها المجتمعات التقليديّة (مدخل إلى الأنتروبولوجيا، جاك لمبار، ترجمة حسن قبيسي، المركز الثقافيّ العربيّ، 1997، صفحة 313).
لذلك، علينا المقاربة الشاملة، كما قال جورج غورفيتس الذي «أصرّ على عرضيّة البنية ووقتيّتها».
Dictionnaire des Ethnologues et des Antropologues, Gérard Gaillard, Ed. Armand Collin, Paris 2002, pp. 138.
Claude Rivière, Introduction à l’Anthropologie, Hachette, Paris, 1999.
نظراً لأنّ الواقع الإجتماعيّ لا ينفكّ عن التجدّد عبر تلك اللعبة الدائمة التي تقوم على التركيب والتفكيك وإعادة التركيب. وهذه التغيّرات، التّي تنقطع، تظلّ محكومة بواقع الحياة المجتمعيّة نفسها، الذي يقوم على التوتّرات والخلافات والنزاعات (مدخل إلى الأنتروبولوجيا، ص 313-314).
الندرة والإصطفاء
الإنسان بحاجة الى التزوّد بالوسائط الضروريّة لحاجاته، وهذه نقطة مؤسّساتيّة بين الانسان ومحيطه كما يقول بولانيي (مدخل صفحة 324).

«البدائيّ» ليس هو الحقل أو الميدان الحصريّ للدراسات الأنتروبولوجيّة، بل أصبحت الأنتروبولوجيا اليوم تدوس على المجتمعات وأنماط الفكر والمعتقدات والثقافات فهجرت الأنتروبولوجيا الحقل البدائيّ، واتّجهت الى ما هو إنسانيّ، ولم تعد دراسة المجتمعات الفرديّة في الأرياف التقليديّة أو الطوائف المنعزلة، الغريبة والبعيدة و«الأجنبيّة» المتجانسة، حيث تطفي العلاقات المباشرة والقرابية، وحيث لا تزال التِقَنِيَّات على بساطتها بل هي تهتّم أيضاً بالجماعات المدنيّة أو الطوائف الإثنيّة أو الدينيّة وجماعات الجوار والحيّ (مدخل إلى الأنتروبولوجيا ص 11). هناك حقول هامّة، منها الألعاب، الموسيقى، الرقص، اللغة، السكن، القرابة، الإقتصاد، السياسة، الدين، والقيم.
المجتمعات ثابتة نسبيّاً على وضع معيّن، لكنّها تخضع للديناميّة وللحياة وللتغيّر. هناك ثابت، وهناك متحوّل. هناك عناصر مقدّسة لا تُمَسّ، وهناك ظواهر متبدّلة متغيّرة، لا تَمُسُّ الجوهر، بل تتكيّف مع الزمن والثقافات والتحوّلات، يستطيع المجتمع معها أن يبقى ويستمّر. الخصوصيّات تبقى وتسمح للمجتمع أن يحفظ ذاته وشخصيّته وهويّته وانتماءه بِقَدْرِ مرونته وقبوله التبدّل للعارض العابر الذي لا يُمسّ في جوهره. فهو لا يُقدِّسُ ما لا يُقدَّس. ولا يُدَنِّس الأساسيّ والجوهريّ. إذا جهل الفواصل بين الأزمنة المقدّسة والأمكنة المقدّسة والرموز المقدّسة من أدوات وثياب ولباس وشعائر، وبين سواها من العوارض المتغيّرة
«فـرازر هو أوّل من أشار في كتبـه خصوصاً إلى الطوطميّـة والزواج الخارجيّ (1910) والفولكلور في العهد القديم (1918) وبخاصّة في كتابه الضخم «الغصن الذهبيّ» الذي بلغ اثني عشر مجلد، وصدر تباعاً بين (1890-1915). وهو كتاب قد وصفه مؤلفه بأنّه «جردة بفكر الانسان، تتابع مراحل تطوّره ابتداءً من السحر والدين، وصولاً إلى العلم». اتّخذ فرازر موقفاً معارضاً للنظريّات الكبرى، وضَمّنَ كتابه مجموعة هائلة من الوقائع التي استقاها من مجتمعات شديدة الاختلاف، وعالج هذه الوقائع من زاوية المنهج المقارن. فتطرّق تباعاً الى موضوعات السحر والطقوس الزراعيّة والاحيائيّة، وعالج بشكل خاصّ أصول ظاهرة «كبش المحرقة»، وهي عبارة عن معتقد يُمَكّن أصحابَه من تحويل كلّ القوى الشرّيرة والمعاصي كافة التي ارتكبتها الطائفة الواحدة، وتحميل وزرها لفرد واحد يفتدي الطائفة بموته المصطنَع. كما كان فرازر أوّل من أشار إلى أنّ شخص الملك يرتدي بالأصل طابعاً مقدّساً، وأنّ الأصل المذكور رمزيّ أكثر ممّا هو سياسيّ. وذلك عبر دراسته «للملك الإلهيّ»، وهي عبارةٌ أراد بها التذكير بأنّ هذا الملك كان رجلَ دينٍ بالدرجة الأولى، وحامياً وراعياً للطائفة، ووسيطاً بين البشر والآلهة، أكثر ممّا هو عاهل أو ملك. وبما أنّ الشخص المذكور كان بمثابة الضمانة لازدهار أحوال شعبه، بقدراته الروحيّة وحيويّته الجسديّة، فإنّ أدنى مساس بهذه القدرات وهذه الحيويّة، إمّا عن طريق المرض أو عن طريق الشيخوخة، يُعتبَرُ ايذاناً بانتقال البلاد بأسرها إلى طور الضعف والوهن. فيُفتَرَضُ والحالة هذه التخلّص منه عن طريق قتله أو انتحاره. ويبدو أنّ هذه الممارسة وهذه النظرة إلى الملك، بما هو رجلُ دينٍ وراعٍ وحامٍ كانت في أصل [مؤسّسة] المَلَكِيَّة التي تحَوَّلت بعد ذلك الى سلطنة. علماً بأنّ هاتَين المؤسّستَين كانتا لا تزالان قائمتَين في القرن التاسع عشر لدى بعض المجتمعات الإفريقيّة».
«إنّ مساهمة فرازر الأساسيّة كانت نظرّيتّيه في السحر وفي تطوّر المجتمعات عبر المراحل المتتالية: سحر، دين، علم. فقد اعتقد الانسان في بداية الأمر أنّ بوسعه السيطرة على الطبيعة، ثمّ تبيّن له بعد ذلك قصوره وضعفه، فاتّكل على الآلهة وفوّض أمره إليها. ثمّ تمكّن في النهاية من السيطرة على الطبيعة، لكنّه عرف حدود هذه السيطرة. وهذا ما حدا بفرازر الى التمييز بين الدين والسحر. فالسحر، برأيه، ضرب من البصيرة او العلم المسبق، ضرب من العلم المزيّف، يعتمده اصحابه على سبيل التعامل مع الطبيعة وأخطارها بغية تدجينها. وفي سياق بحث الانسان عن علاقات الأسباب والمسبّبات، أخذ يسعى لإيجاد قوانين. لكن هذه القوانين ما هي في الواقع إلاّ وهم خيال. رغم ذلك فقد اعتقد بها واعتمدها في بادىء الأمر. وأهمّ هذه القوانين اثنان: «قانون التماثل» و«قانون التماس» أو«العدوى». هكذا لا بدّ للشبيه من أن يولّد شبيهه: فتصوير الحيوان الجريح بفعل سهم من السهام على جدران كهف من الكهوف من شأنه أن يجعل رحلة القنص في اليوم التالي مثمرة وناجحة. كذلك الأشياء التي تتماسّ في ما بينها: فهي تستمر في التأثير بعضها على بعض، وهذا هو السحر المسمى بالسحر «التعاطفي»، وهو الذي يمكّن متعاطيه من استخدام شيء من ممتلكات أحد الأشخاص أو جزء من أجزاء جسده (كأظافره أو شعره، إلخ.) ضدّ هذا الشخص بالذات.
فالساحر يُسيطر على الطبيعة، أو يعتقد أنّ بوسعه السيطرة عليها، وهو لا يتوسّل الى ذلك أيّة قوّة غيبيّة. لكنَّ الانسان توصَّل في النهاية إلى الاعتراف بعجزه وقصوره تجاه قوى معيّنة لا مثيل لها بالسيطرة عليها، فعزا أسبابها للآلهة، وكان الدين. والحالة هذه، عبارةٌ عن مصالحةٍ مع القدرات العليا [...] التي يُفترَض بها أنّها توجّه الأحداث الطبيعيّة والبشريّة وتتحكّم فيها».
الفرق بين الدين والسحر هو أنّ الدين «يتعاطى مع بعض الفصائل الأساسيّة التي تحكم الوجود البشريّ»، في حين أنّ السحر يتّجه صوب تفاصيل المشكلات عن مواضيع الآخر، شأنها في ذلك وفي العلم الذي يرى فرازر أنّه يفرض نفسه ومنطقه، عندما يدرك الانسان أنّ هناك تجانساً وتشاكلاً في الظاهرات الطبيعيّة، وأنّ هناك نسقاً فعليّاً، وأنّ انتظامَ هذه الظاهرات لا يعني أنّها ليست خاضعةٌ لإرادة الآلهة وأمزجتها.
صحيح أنّ هناك من عرّف الدين من حيث تعارضه مع السحر. فعارض بين الجانب الرسميّ والجماعيّ من الدين (طوائف، كنائس)، وبين الجانب المتستّر والفرديّ من السحر. فالسحر يسعى إلى السيطرة على الطبيعة، ويرمي إلى تحقيق غايات خاصّة (زراعة، محاصيل، صيد، حِرَف، مداواة...)، بينما يقتصر الدين، من حيث خضوعه للقدر، على إشاعة الطمأنينة في نفوس الناس حيال أسرار الحياة، وحيال خشيتهم من الموت. علاقة الإنسان بالآلهة شأن مقدّس. والدين بوصفه شأناً مجتمعيّاً، هو قوّة مُلزِمَة تضغط على الفرد، وذات وظيفة تقوم على تعزيز اللحمة المجتمعيّة.

القسم الثاني:

مقدّمة:
ينطلق تفكيرنا إلى أبعد من اليهوديّة والمسيحيّة والاسلام، في أبعادها الطقوسيّة، واحتفالاتها الدينيّة، وشعائرها الرمزيّة التي تُمظهر تقيّدَها وانتماءها إلى محيط جغرافيّ تميّز بالبعد الصحراويّ وبنوع محدّد من الطقوس الزراعيّة والحياة الحيوانيّة، والنظر إلى سماء صافية محدودة لا تغلّفها الغيوم والضباب، بل تضيء فيها النيّرات والنجوم، وتبسط عليها الشمس، ويملك عليها القمر. قراءتنا تنطلق إلى الحضارة الإنسانيّة، وثقافة الشعوب بطريقة تتخطّى الجغرافيا المكانيّة، والثقافة المحلّيّة، والمورثات الفكريّة، لتذهب إلى المنطلقات التأسيسيّة لهذه الأنواع من الملابس والآنية والأدوات مع رموزها الطقسيّة ودلالاتها الحضاريّة والثقافيّة والدينيّة والفنّيّة وارتباطها، بالبيئة والجغرافيا، وبمؤسّساتها الإجتماعيّة.
وظيفة الثياب هي أوّلاً لاتّقاء الحرّ والبرد وستر الجسد وحمايته من الرمل والثلج والشمس. لذلك، نحن نقول إنّ الحجاب وغطاء الرأس والعمامة لا وظيفة إلهيّة لها، إنّما لها وظيفة طبيعية للحماية والوقاية، ولا معنى سماويّ بل هي لإبعاد المخاطر والشهوات والغرائز. أمّا المعاني التي أُعطِيَت لاحقاً، وصارت من المحرّمات والفرضيّات الإلهيّة والاجتماعيّة، فهي تحصينٌ للمقولات الطبيعيّة والاجتماعيّة. والثقافة بمقدّس التي يعطيها قوّة الحقّ الإلهيّ والممنوع السماوي لحماية الحياة والمجتمعات. بعد ذلك، تهدر فيها أنهار الرمزيّة، وخصوبة الدلالات والمعاني. في ذاتها، لا معنى مقدّساً لها، بل هي علامة روحيّة اجتماعيّة دينيّة لمركز ودور وجنس من يرتديها.

«Le pénis de l’homme possède apparemment la même valeur socio-sexuelle que celui des primates. W. Wickker raporte plusieurs cas où l’érection accompagne chez l’homme, des états émotionnels violents, comme la colère, l’agressivité ou la menace.
Le pénis joue aussi, chez l’homme, le rôle de sentinelle. Lorsqu’on compare la position assises des homes et des femmes, il apparaît que l’homme s’assied généralement comme s’il voulait rendre apparents ses organes génitaux que dissimulent cependant ses vêtements.
De nombreuses peuplades primitives utilisent divers ornements ou étuis péniens pour accentuer la taille ou la couleur de leurs organes génitaux. Le pénis en érection, même stylisé, a toujours symbolise la puissance, la force. On a, depuis longtemps, établi des rapprochements entre la forme du pénis en érection et les épées, les sceptres, etc. (Malgré des sortes d’armures de cuir et de métal, les hoplites grecs combattaient les organes génitaux dénudés).
Nous pouvons retrouver de nombreuses traces de ce comportement des primates dans les traditions de diverses peuplades. On rencontre dans plusieurs pays du monde des bornes qui ont soit la forme d’un pénis en érection, soit la forme stylisée d’un homme dont seule la tête et les organes génitaux sont fidèlement représentés. Il est intéressant de préciser que ces sortes de bornes phalliques qu’on trouve à l’entrée des villages mexicains, à la porte des temples hindoux devant les maisons amazoniennes sont toujours tournées vers l’extérieur. Elles sont là, disent les habitants pour protéger le village ou la maison contre les esprits mauvais».
Au-delà de sa fonction de protection, assurée de façon variable (les Fuégiens subissent un climat analogue à celui supporté par les Eskimo ne portent qu’une cape de peau), d’une expression éthique de pudeur, d’une manifestation érotique, le vêtement renvoie aux systèmes culturels qu’il signifie. Code, il permet aux individus de communiquer à travers la perception claire des vêtements-signés. R. Barthes: «Modes et Sociétés», in Echanges (août 1966), declare «Le port d’un vêtement est profondément un acte de signification donc un acte profondément social installé au cœur même de la dialectique des sociétés».
الملابس التي ليست هي كملابس سائر الناس، هي علامة التمّيز والفصل والتكرّس والسلطة والوظيفة والهويّة والانتماء الاجتماعيّ والدينيّ. من هنا، نَقول: إنّ هذه الملابس والثياب وُجِدَت مع وجود البشريّة. وتمّيزت خدمة الآلهة والكهّان بلبسها، حتّى إنّ تلامذة فيتاغوروس كانوا يرتدون اللباس الأبيض (الخوري ناصر الجميّل، الرموز المسيحية، ص 55).
أمّا البياض في اللباس فهو علامة الطهارة والنقاء والمجد (رؤيا 4/4) هذا البياض هو لبس ملاك الربّ، وهو ما يرتديه المسيح في مجده، وعند تجلّيه. وهو لباسُ وليمة الحمل (رؤيا 19/9).
هكذا هو هذا البياض في ثوب العماد، إنّه علامة الحياة الجديدة والفرح والنقاء والنصر ولبس المسيح الجديد القائم من القبر، كما ورد في غلاطية (3/27) «أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم، المسيح قد لبستم».
اللباس دلالة الإنتماء الإجتماعيّ وعلامة السلطة، أو المقام، أو الاحتفال الطقسيّ أو المشهديّة الجماعيّة في الأعياد والمناسبات. في (الفصل 21/10) من سفر الأحبار، نجد ما يلي: «أمّا عظيمُ الكهنة بين إخوته والذي صُبَ على رأسه زيتُ المسحة، وكُرِّسَتْ يدُهُ ليلبس الثياب، فلا يهدِلَ شعرَه، ولا يمزّق ثيابه...». فللكاهن، في العهد القديم، ثياب ليتورجيّة ورد وصفها في مواضع عدَّة، منها في سفر الخروج (الفصل 28: 40-43): «لِبَني هارون تصنَعُ أقمصةً وزنانير، وتصنعُ لهم قلانسَ مجدٍ وبهاء... وتصنع لهم سراويلاتٍ من الكتّان لتغطّي عُريَ أبدانهم، من الحقَوين الى الفخذَين»... و(29: 5-9): «وخُذِ الثيابَ وألبسْ هارون القميص وجُبَّة الأَفود والصُدرَة، واشدُدْه بوشاحِ الأَفود. وأجعل تاج القدسِ على العمامة...».
كهنة العهد القديم يتميّزون، كما يقول الخوري ناصر الجميّل «بارتداءِ ألبسةٍ طقسيّةٍ (خر 28: 40-43) من الكتّان (حز 44: 17). بينما يكون لباس الأنبياء من الشعر والجلد، أي من مصدر حيوانيّ (2 ملوك 1: 8؛ متى 3: 4). أمّا تمزيق الثياب فيُشيرُ إلى الحزن والغضب (متى 26: 65) (الرموز المسيحيّة ص 56).
مما جاء في كتاب القدّاس المارونيّ وفي مقدّمة المطران بطرس الجميّل في الصفحة 54 «يرتدي الكاهن قميصاً ومنصفة وبطرشيلاً وزناراً وغفارة...». ويُضيف: «من الضروريّ أيضاً، العودة في اللبس الكهنوتيّ إلى التقليد السريانيّ، الأنطاكيّ، ليس فقط للحَبر بل للكاهن والخدّام أيضاً. ومن الضروريّ أيضاً استخدام الشارات الحبريّة الشرقيّة، على أن تُستَبدَل عصا الرعاية الغربيّة بالعصا الشرقيّة المعروفة بالرمّانة يعلوها صليب. كما أنّ الموضوع مطروح بالنسبة إلى التاج الأسقفي الذي هو من الغرب ومطروح أيضاً استعادة الأمونوريوم الذي يتوشّح به الأسقف ليمّيزه عن الكهنة، كما في سائر الطقوس الشرقيّة. ومن المطلوب أيضاً توضيح ألوان الثياب الطقسيّة بالنسبة إلى مراحل السنة الطقسية والأعياد».
لنأخذ هذه الملابس، ونفكّر بوظيفتها والحاجة إلى مدلولاتها ورموزها، انطلاقاً من المدارس الأنتربولوجيّة التي تكلّمنا عنها سابقاً: الإنتشاريّة، الوظائفيّة، البنيانيّة، التحليليّة النفسيّة، وسواها من المدارس. آمل ألاّ أُتَّهم بالكفر والزندقة وعدم الإيمان وبأننّي أدنّس ما هو مُقدّس، وأبتذِل ما هو مُحرَّم، وأمسُّ «تابوهات» تحمل قوّة الرموز المقدّسة العابرة لتحوّلات الزمن ومتغيّرات الأيّام في استمراريّة احترام الجماعة وتكريسها لطقوسها وشعائرها وآنيتها وأدواتها ولبسها المقدّس، في الأزمنة المقدّسة والمساحات والمسافات المقدّسة المشحونة والمتفجرّة بالأبعاد الروحيّة والتقويّة.
القضيب أو العصا.
القضيب أو La verge أو La canne les épées, les scepters, بالفرنسيّة، إنّه بمعناه الأوّل يدل على العضو الذكريّ، وهو دلالة الخصوبة والقوّة والرجولة، في دلالات تكلّم عليها فرازر: إنّها الحماية والرعاية والسلطة والملوكيّة والأولويّة. القضيب أو La verge، إنّه «عصا الرعاية»، ودلالة القوّة والسيطرة، وفي أعلى العصا أو القضيب رموز جنسيّة واضحة، وهي رموز الموت والحياة متجسّدة في مجسّمَي الأفعى. أمّا، الخوري ناصر الجميّل فيقول في كتابه الرموز المسيحية (صفحة 61): ترمز العصا التي يحملها الأسقف أو الرئيس العامّ للرهبانيّة، إلى القصبة التي جعلوها في يد يسوع اليُمنى بعد ما جرّدوه من ثيابه، ووضعوا على رأسه اكليل الشوك (متى 27/29).
العصا، هي عصا الراعي الصالح، الساهر على القطيع وعلى الخراف، وهي عصا السفر والدرب الطويل والترحال. إنّها عصا السلطة الروحيّة، ورمز للصليب المقدّس. كانت اوّلاً من خشب، وقيل عن الذين يحملونها «عِصِيُّهم من خَشَب، أما قلوبهم فمن ذهب». إنّها عصا التأديب والتأنيب. هذه العصا لا تحمل في أسبوع الجمعة العظيمة. وكذلك التاج لا يُلبَس في أسبوع الجمعة العظيمة، ولا يُقال «برخمور ريش كهنه» أو «بارك يا سيّد». هذه من المحرَّمات والممنوعات الكلاميّة، او اللباس. ولا يجوز الجلوس على العرش طوال أسبوع الجمعة العظيمة، لأنّ طقس آلام الإله الفادي وعذابه أقوى من طقس مجد العالم.
ويبقى السؤال: هل العصا هي للمجد والتباهي أو التعالي بمن عنده العصا الأكبر والأعلى والأغلى. إن هذا هو بعد دنيوي ونحن نبحث عن البعد الإنجيلي. ونحن نسأل هل يسوع يريدنا هكذا؟ أمّ إنه علينا أن نكتفي بصليب اليد لنحمل تواصل يسوع فنستغني عن جميع المظاهر الدنيوية الفانية؟

البطرشيل

كان الأقدمون يحمون العضو الذكريّ، بجهاز stoly باليونانيّة الذي هو L’étui pénien الحامي الذكريّ، وهو كناية عن قصبة أو خشبة مقدوحة تحمي هذا العضو من الجراح عند السير في الأدغال أو بين الأشواك، ولمزيد من الحماية والوقاية كان يوضع على الخصر شقفة جلد أو قماش تتدلّى حتّى الركبَتين تزيد من الحماية والوقاية. لنتذكّر ما كتبه الملهَم: «وتصنع لهم سراويلات من الكتّان لتغطّي عُري أبدانهم، من الحقوَين، الى الفخذَين» (خروج 28/43).
بعد هذا، وُضِعَ نوعٌ من القماش، كان يتدلّى من الكتفَين حتّى الركبَتين لتحمي الأعضاء الجنسيّة، وهي دلالة على السلطة والقوّة والأولويّة والملوكيّة والرعاية والكهنوتيّة، وتطوّرت حتّى صارت فيما بعد ما يُسمّى «البطرشيل» الذي هو علامة السلطة والقوّة والأوليّة والكهنوت. إنّها نير الربّ الخفيف (متى 11)30).
بالأساس كانت ثوباً طويلاً يرتديه الكهَّان الوثنيّون ونساء اليونان والرومان. أمّا لبسه من قبل الكهنة في المسيحيّة، فهو يعني السلطة الكاملة لرعاية الخراف وبعضُهم يقول: إنّه رمز للحبل الذي ربط به الجند رقبة يسوع عندما انتقلوا به من عند قيّافا إلى بيلاطوس ثمّ إلى هيرودس. فإلى الجلجلة. أمّا معناه الحقيقيّ فيرمزُ إلى صليب يسوع المحمول على الكتفَين ولنيره الطيّب وحمله الخفيف.

كمّ الزند

إنّه القماش الذي يحفظ كمّ القميص من التلوّث بدم الذبائح والضحايا والمحرقات. لأنّ الدم يدنّس، وهو محرّم و«تابوه» Tabou. لذلك كان «الكهّان» يحفظون أكمامهم من التلوّث بالدم الذي يحمل كلّ الغضب الإلهيّ، وكلّ الممنوعات والمحرَّمات. وهذا الكمّ هو الذي كان يَمْسَح الكهّان به عرقَ جباهِهم، أو أيّ تلوّث يطال أجسادهم وثيابهم، في حال إتمام الطقوس المليئة بالأسرار والألغاز والمخاطر، والغضب الإلهيّ، واللعنات والأوبئة والأمراض والمصائب. انه الدم، الدم المخلّص والفادي أو الدم المدنّس والمدمّر والحامل الويل والضربات والغضب واللعنات.
التاج: إنّه رمز الكهنوت والمجد والملوكيّة
وهو علامة السلطة والأولويّة والعلامة الممّيزة والفارقة للآلهة والملوك، والتي تعطي الوقار والمهابة والحقّ بالقرار والرئاسة. لكن، إضافة إلى كلّ هذا، كان للتاج أو لخوذة الرأس وظيفة الحماية والوقاية، لأنّه، وبحسب دراسات فرازر عن الكهنوت، يعني أنَّ الذي يقتل الكاهن، كان يقوم مقامه في الكهنوت والملكيّة والسيطرة والأولويّة. في كتابه «الغصن الذهبي»، يقدّم لنا فرازر أجمل الصفحات عن هذا الكاهن الساهر، المتيقّظ، الخائف أن يَنقضَّ عليه غريم، ويقتله ليأخذ مكانه. لذلك، كان الغدر بهذا الكاهن يتمّ من ضربةٍ على الرأس، أو طعنة من الوراء بين الكتفَين لذلك كان عليه أن يحميَ رأسه وظهره وكتفَيه، وهذا ما نجده إلى اليوم في لبس الأساقفة الأرمن والأرثوذكس، أو سواهم من خوذات عسكر، وطاقيّات المحاربين. بقي منه قطعتا قماش تتدلّيان على الرقبة. وهو يرمز كما يقول بعضهم إلى اكليل الشوك الذي وضع على رأس يسوع.
في العهد القديم، لبسه هارون (خر 39/30-31)، وهو يدّل على معرفة العهد القديم والجديد. في المسيحيّة، صارت ترمز إلى المنديل الذي غطّى به الجند رأس يسوع بعد لطمه (متى 26/67-68)، وإلى خوذة الخلاص في رتبة الرسامة: ألبس يا ربّ عبدك هذا خوذة الخلاص، وهي لاتّقاء الشرّير. ويقول بعضهم الآخر إنّها رمز الغمام الذي غطّى تابوت العهد (الخوري ناصر الجميّل، الرموز المسيحيّة، ص 63، بيروت 2007).

المنصفة

أمّا، ما يسمّى «بالمنصفة»، فهي تتبع ذات الشرح، عدا أنَّ وظيفتها تُلَخَّصُ بإبعاد العرق عن الرقبة وما بين الكتفًين. أمّا الدلالات والرموز المسيحيّة التي تُعطَى لها اليوم، فقد أتت متأخّرة، ويمكننا القول كما إنَّ المسيحيّة «نَصْرَنَتْ» الأماكن والأعياد والطقوس والأزمنة، فقد «نَصْرَنَتْ» هذه الملابس وعمَّدَتها بمعانٍ رمزيّة مسيحيّة. وهذه ربّما كانت عبقريّة المسيحيّة، إنّها لم تُلْغِ ما قَبلَها، ولم تُدَمِّره، بل بعمليّة مثاقفة أعطت للمسيحيّة خصوبَتَها وتساميها وَدَمَجت هذه العناصر في مدارها الثقافيّ والروحيّ؛ وهذا ما أعطى للمسيحيّة زخم تَجدّدها الدائم ما يَكفيها مع كلّ زمان ومكان. وهذا ما يسمّى «بلاهوت الوقت»، والمكان، والجماعة القائمة في بيئة معيّنة، وثقافة معيّنة، وزمن معيّن. وهذا ما يُقال له «أًوْنَنَتْ» الليتورجيّا. فعبقريّة المسيحيّة أنّها، في مسارها، أخذت عاداتٍ وتقاليداً وفولكلوراً وطقوساً وملابساً ومآكلاً وشخصيّة الشعوب، وعَمَّدَتها بنعمة يسوع، آخذة ما فيها من غنىً وجمال. لا وثنية في المسيحيّة، ولا جاهليّة في المسيحيّة، بل استعداد لوصول العروس يسوع. تحضير لظهوره وتجلّيه وحضوره، من بداية الكون والزمن إلى الساعة. لقد أتت الساعة، إنّها الساعة، التي كلّمنا الله فيها بابنه ولم يعد يكلّمنا برموز وبأشباهٍ شتّى (عبرانيّين ....). هذا هو الحدث المذهل الذي صمت فيه الله، ولم يعد عنده كلام يقوله لنا، بل أعطى لنا بابنه أن نحمل سرَّ الخلاص والفرح والحبّ والسلام والمغفرة للعالم. فهل نحن نحمل خوذة الخلاص وهي الإسكيم عند الرهبان وهو ما زال لبس أساقفة السريان والأشوريين ويعود الى اصولنا وجذورنا ونلبس فقط الإسكيم وحده وليس التاج ولا حمل العصا بل الصليب في حركة طقسية تجديدية جذرية؟!.

البشكون

أمّا البشكون، وهو أداة فصل بين الناس والكاهن والمذبح. إنّه علامة على أنّ هذا الانسان مفصول، منقطع عن الجماعة، إنّه المكرّس لعالم آخر، لم يعد في المسافة التي فيها الناس، بل أصبح في مسافة أخرى وفي مدارٍ آخر. لم يعد من العالم بل صار لله، وهذا ما يمكننا أن نطبقّه أيضاً على الثوب الرهبانيّ أو الإسكيم الرهبانيّ. إنّه قد انقطع عن الناس، وصار منذوراً للهِ، يعيش له وحده ومعه. صار «وحيداً مع الوحيد الأزليّ». لا شيء بَعدُ يُلهيه عن الله، لا مجدُ العالم، ولا شهوةُ الجسد، ولا حبُّ المال والمتعة. (إنّه يعيش حياة ملائكيّة يقظة لمجد الله. (الخوري ناصر الجميّل، الرموز المسيحيّة، ص 57).

الزنّار

إنّه الحبل الذي يشدّ فيه الإنسان حقَويه. أَلَم يَقُلِ الله لأيّوبَ «قم اشدُّد حقَويك، وكن رجلاً». وهو أيضاً الرباط الذي نحزم به الملابس فوق الوركَين، للمساعدة على المشي والجري بدون أن تتمزّق الثياب. إنّه في المسيحيّة رمز للحبل الذي رُبط به يسوع إلى العمود حين جُلد. وهو رمز العفّة والنقاء وقهر الشهوات والحضور للخدمة والاجتهاد، والتنبّه والنشاط لخدمة الربّ والمذبح باحتشام وحياء. إنّه لباس الرحيل والسفر (خروج 12/11). هو لباس الزهد والتجرّد والتوبة (متى 3/4) كلباس يوحنّا المعمدان(10/25). وهو يعطي القوّة للقتال (مز 18/40، أعمال 21/10/11) إنّه علامة الخادم الساهر على خدمة سيّده (لوقا 12/35)، وإنّ الربّ يتملّك هذا الانسان المختار (يوحنا 21/18).
القميص الأبيض (او الكتّونة)
جاء في كتاب الرؤيا: «هؤلاء اللابسون الحلَلََ البيضاء، مَنْ هُم ومِنْ أين أتَوا؟...هؤلاء هم الذين أتوا من الشدّة الكبرى، وقد غَسَلوا حُلَلَهم وبيّضوها بدم الحمل. لذلك هم أمام عرش الله يعبدونه نهاراً وليلاً، في هيكله، والجالس على العرش يظلّلهم... ويمسح كلّ دمعة من عيونهم» (رؤيا 7/13-17).
الكتّونة البيضاء هي النقاء، والثلج. إنّها الحالة الطقسيّة المشعشعة هفافاً ونوراً والتي يتجدّد فيها كلّ شيء، الداخل والخارج، الزمن والمسافات، الجمال الإلهيّ واللياقة الانسانيّة، روعةُ العبادة وبهاءُ الملابس، والزينة المقدّسة. يتجلبب بها الكاهن، أو الوسيط، أو الحاكم أو الملك، فتميّزه عن سائر الجماعة.
إنّه النور الإلهيّ وفرح خدمة الربّ. ملاك الربّ يتّشح بهذا الثوب (حز 9/2)، وهذا هو لباس القيامة والتجلّي، ولباس العروس والمختارين (رؤيا 7/9 و14).
قميص الطهارة والنقاء، وثوب الخلاص والبرارة هذا، يرمز إلى القميص الذي ألبسه هيرودس ليسوع ليستهزِىءَ به.

الغفّارة أو البدلة

كالبدلة التي ألبسها موسى لهارون. إنّها بالحقيقة التوشّح بالمجد والقوّة وستْرُ جميع ما تحتها. إنّها تعطي الأبّهة والعظمة، وهي ترمز إلى ثوب البرفير الذي ألبسه الجلاّدون ليسوع، بعد جلده.
التجديد من الرومنسية الى العلم
هل يتلاءم تجديدنا الليتورجيّ ويحمل جوهر الرموز التأسيسيّة التي تكلّمنا عليها؟ هل علينا التخلّي عن بعض الظواهر وتركها لكي نتعلّق بها بطريقة عاطفيّة رومنسيّة، أم إنّ هذه المحاضرات القيّمة ستكون لنا حركة تجديديّة تطهيريّة، صافية، واعية، علمية، عاقلة، وغير متهورة أم إنّه ينبغي علينا أن نُبقي هذه الأشياء في صنميّتها ونجعل من كنائسنا متحفاً ومن ثيابنا كرنفالاً يستند على أفكار موروثة، ولا ركائز علميّة تاريخيّة أنتربولوجيّة لها؟ (La Sociologie du Rite, Jean Cazeneuve, Puf, Paris) وهي غير صحيحة بل ترتكز على تراكمات تنبع من الحنين والذكريات. تجدّدت الكنيسة المارونية وبقيت في أبهى أيّام تاريخها متجدّدة رائدة، ذاهبة الى العمق. نحن نعرف أنّ «البيت كازو المارونيّ» والذي كان للأباتي يوحنّا تابت الفضل في ترجمته ونشره و«الريش قوريان» يحملان الغنى اللاهوتيّ والروحيّ للكنيسة السريانيّة الأنطاكيّة المارونيّة. وإنّ البطريرك اسطفان الدويهيّ هو رائد التجديد الطقسيّ والليتورجيّ والكنسيّ والتنظيميّ. وإنّه كان لمجمع اللاتران سنة 1215 المجال الأول في التغيير عند الموارنة، والاتجّاه نحو الغرب أو ما يُقال له اللبتنة. أمّا مدرسة روما المارونيّة فكان لها الدور الكبير بتعزيز هذا المنحى، وكذلك مدرسة حلب الموجودة على ملتقى الطرق والحضارات والثقافات. بعد هذه المدارس التجديديّة برز دور المطران بطرس ديب والبطريرك الياس الحويّك، والبطريرك أنطوان عريضة والمونسنيور ميخائيل الرجّي، والرابطة الكهنوتيّة المارونيّة، والمجمع الفاتيكانيّ الثاني. ثمّ أتى الدور الكبير لمعهد الليتورجيّا في الكسليك بفضل الأباتي يوحنّا تابت، والذي واصل حمل المشعل بعده الأب هاني مطر، إلى أن انتهى بنا الأمر إلى اللجنة البطريركيّة للشؤون الطقسيّة والتي يرأسها سيادة المطران بطرس الجميّل، والتي أخذت على عاتقها تنظيم الموارنة بقرار بطريركيّ بعد أن كان الإصلاح يتمّ قبلاً بمبادرات شخصيّة.
واسمحوا لي أن أنوّه بدور المعهد الليتورجيّ في جامعة الروح القدس في الكسليك وبفضل المرحوم الأباتي عمّانوئيل خوري، والأباتي يوحنّا تابت والمرحوم الأب روفائيل مطر، والحبيس الأب يوحنّا خوند، والأب لويس الحاج، والأب هاني مطر، والأخت مارسيل هدايا، والتي يواصل العمل فيها حضرة الأب أيّوب شهوان وجميع العاملين معه. وبأهمّيّة هذه المنشورات التي كانت للإختبار وما زالت قبل وبعد وجود اللجنة البطريركيّة الليتورجيّة، والتي لولاها لبقي الكثير من كنوزنا وغنى لاهوتنا الليتورجي طي النسيان (أشير هنا الى أهميّة مجموعة البيت غازو المارونية التي قام بترجمتها ونشرها الأباتي يوحنّا تابت، و«الريش قريان» للأخت مارسيل هدايا، وسواهم). كما بأهميّة الرتب الرُهبانيّة والطقسيّة وبالزيّاحات (زيّاح الميلاد أو الصليب) والصلوات، والمتعيّد (القدّيسين: شربل، رفقا والحرديني)، ومنشورات المعهد العلميّة: محاضرات هامّة تشكّل المرتكز العلميّ للإصلاح الليتورجيّ الذي ليس هو عواطف وحنين، بل هو علم والتزام بالإنجيل.

خاتمة

واسمحوا لي أن أختم بما جاء في المجمع الفاتيكانيّ الثاني في التجديد الليتورجيّ، وبما جاء في مقال القّس عيسى دياب في مقاله: «بين الكهنة والأنبياء: التحجّر الدينيّ»، في الديار 25/10/2097): «إذا أردنا أن نعرف طريقة بروز الطقوس وعلاقتها مع الجوهر في الدين الواحد يجب أن نطلب مساعدة علم تاريخ الأديان أو علم الدين المقارن».
نقاؤنا الأوّل الأصليّ الذي دنّسته الخطيئة وكسرته وشوّهته الرذائل فأفسدت جماله يجب إصلاحه وإعادته إلى أصالته وبكارته الأولى وعذريّته ونقائه، وهذا يتمّ عبر الطقوس التي بها نعبر إلى التقديس. من هنا، يمكننا القول إنّ هناك عقيدة، وهي موضوع الإيمان، وهناك الطقس. ولئلاّ يصبح الطقس مجموعة حركات خرافيّة، عليه أن يُدَعَّمَ بالدين وبالعقيدة، أي بالإيمان وليس بالشعوذات. يسهر على هذه العمليّات الكهّان والفقهاء والشهود كالقدّيسين، والأولياء والمتصوّفين والعبّاد والمكرّسين والأنبياء، في سلوك من الطهر، والنقاء والعقلانية، والصفاء والقداسة. لكن الخطر هو حين يقوم الكهّان يدافعون عن مظاهر الطقوس بطريقة تقليديّة، فيصبح المعتقد مظاهر وطقوساً فارغة او العوبة كما في لعبة «اليويو» التي كانت طقساً مقدساً وكذلك لعبة «الإكس» التي كانت طقساً مقدساً وكذلك «الودع» و«الحجارة». ويقيمون نفوسهم حرّاساً لله، قاطعين الدرب على الملهمين والأنبياء والمصلحين، فيقوم عندها في الجماعة تياّر كهنوتيّ متجمّد: الفرّيسيّون من هنا، وتيّار نبويّ إصلاحيّ متحرّر متحرّك من هناك. فيقوم الكهّان، وخارجيّاً فقط بالروبريكات، على ترتيب وتنظيم الطقوس، وكأن الطقس هو الأساس، وهو الغاية والهدف من الدين. ويقوم الأنبياء والراؤون بالتأويل وبتخطّي الخرافات والحكاية التي أخذت تطمر جوهر الدين تحت تراكمات من التسطح، حيث أصبح الدين طقساً وممارسة اجتماعيّة خارجيّة وليس عيشاً داخليّاً يضجّ فيه الروح.
الخوف إذا هو من احتفال طقسيّ يكرّم فيه كلّ شيء إلاّ الله، من لباس وشعائر وأنغام ومباخر وتبريكات وإشارات وصلوات. كلّ الديانات فيها هذه الطقوس وهذا الجوهر وفيها أناس الكهنوت وأناس النبوءات. لكنّ الخوف هو من «تقديس» وتأليه الطقس، أي المظهر الخارجيّ أو التقليد، وإهمال الجوهر الدينيّ الأصيل. لكن، علينا الإنتباه عند تفجّر العاصفة النبويّة أن تجرف في تيّارها الركائز الأساسيّة للمعتقد والدين، وإلاّ وصلنا إلى الغلوّ والتطرّف، وأوجدنا بِدَعاً وشيعاً جديدة. الإنسان بحاجة إلى الطقوس والشعائر والصور والرموز والمباخر. فللطقس بُعدٌ عقائديّ وبُعدٌ تربويّ ينشأ فيه الفرد عبر الصور والرموز والإحتفالات على الحقائق الإيمانيّة، وعلى تاريخيّة المعتقدات، لذلك هو يصنع ذلك للتجدّد والتذكّر.
نهاية، في «وثيقة المجمع الفاتيكانيّ الثانيّ عن الليتورجيّا المقدّسة»، يقول: لمّا كانت الطقسيّات قد غَدَت مشوّهة بسبب ما أُدخل عليها عبر العصور، رأى المجمع أن يجدّدها حتّى تأتي بالثمرة المتوخاة، وطبعاً مع العلم أنّ هناك قِسماً إلهيّاً لا يتغيّر (المجمع الفاتيكانيّ الثاني، ص 194).
هذا التجديد يجب أن ينبعَ من «دراسة لاهوتيّة وتاريخيّة ورعويّة متقنة، وليأتِ التجديد نتيجة تطوّر عفويّ. إذ لا يجوز أن نضرب بالتقليد عرض الحائط، وطبعاً يجب أن يحتلّ الكتاب المقدّس في كلّ هذا المركز الأوّل (صفحة 195) وأن يحافظ على ميزات الشعوب ومواهبها...» (صفحة 195). ولنعرف أخيراً «أنّ التجديد هو بالتجديد الداخليّ لا ببعض تعديلات خارجيّة» (صفحة 198). وعلينا كما يقول الأنبا يؤانس في مقاله: «كيف تتجدّد حياة الكنيسة» (النهار، الأحد 4 تشرين الثاني 2007): «إن التجدّد في الكنيسة ينبغي أن يفهم على إنّه رجوع إلى الكنيسة الأولى... وكلّ ما يتصل بها من حرارة الروح وبساطة الإيمان وبعمل الروح القدس... إنّ حاجتنا الأساسيّة هي العودة الى الله أكثر من حاجتنا الى استخدام واستحداث أنظمة اجتماعيّة... نحن نفتّش عن الجوهر... وهذا الجوهر ليس شيئاً آخر سوى المسيح... علينا ترجمة العقيدة بأسلوب العصر مع الحفاظ على الروح باستيعاب لغتنا العربية واستخدامها استخداماً سليماً في التعبير عن العقيدة... وعلينا ربط العقيدة بالليتورجيا... وعلينا أن تركّز على الكتاب المقدّس لكي يصبح كتاب الحياة الشخصية من أجل حياة جديدة... وعلينا إحياء الإحتفالات الطقسية الأسرية والإهتمام بتزيين البيوت بإيقونات الشهداء والقديسين... وعلينا التوعيّة على أسرار الكنيسة وتعميّق مفهوم المحبة من خلال سريّ الإفخارستيّا والذبيحة...»

* * * * * * *

مختصر كلمة البروفسور الأب يوسف موّنس - حول كتاب الدكتور جورج قرم

كتاب الدكتور جورج قرم «المسألة الدينية في القرن الواحد والعشرين» كتاب يثير فيك السؤال الكبير ألا وهو: في البدء كان الدين وفي النهاية هو. والمسار التاريخي السياسي هو اما الصراع معه أو حوله أو مواكبة اخفاقاته وفشله عداوة وحروباً وأعاصير مذابح وكراهية لبناء ملكوت الحقد والظلم الكراهية والخطيئة أو نجاحاته وارسائه قواعد المحبة والتعاضد والتضامن والأخوة والمشاركة واحترام غيرية الآخرين واختلافهم أو بناء ملكوت الكرامة البشرية وحقوق الإنسان.
الله يكتب التاريخ على خطوط لولبية ويرسم المصير على خطوط متعرجة. الظاهرة الدينية هي الأساس في الإهتمام العالمي أكان ذلك شوقاً وتصوفاً في القلوب لإعطاء معنى للإنسان أم عنفاً وارهاباً تفوح منه رائحة الخناجر والدم لإرساء إمارة سيد هذا العالم. التنين والوحش «اركون الشر» الذي يريد أن يبتلع ابن الانسان. الكتاب قراءة عميقة متكاملة في جدلية الحضور الإلهي في مدينة قيصر وفي تصادم أسياد الأرض حاملي سيوف النار بأسياد السماء باسطي شرعة المحبة والرحمة والتضامن والإنسانية.
البعد الآدمي السامي في مفارقة مع البعد الإغريقي. فالأول يغرق في الجماعة ولا يتحمل اية مسؤولية ولو كتب على جبهة التاريخ ايها العار المجد لكَ وهو كحيّة تترك جلدها للنسيان. والثاني يتحمل مسؤولية الأنا في موقف «بروميتي» مسؤول عن أزليته وحريته وحرية وأزلية الآخرين. من هنا الإشكالية «نحن» و«هم» وثنية الهوية العربية في عودة الإلهي الديني المتوحش المبتعد عن المقدس والذي يسمح بأن ينعت الإسلامي بالإرهابي ولا مصالحة بين المقدس والمدنس حيث تضيع الخطوط والفواصل من هنا طرح جورج قرم لإنسانوية حديثة عالمية تخرج الدين من الموت وتدفع به إلى الرجاء بأيام أكثر شفقة وإنسانية بطريقة نقدية عقلية. هي صوفية تاريخية جديدة.
* * * * * * *

لاهوت الصلب في الجمعة العظيمة

طبعت 5 آذار 2008

إنها الجمعة العظيمة

إنها الجمعة العظيمة. أهل اورشليم يركضون في الشوارع. رجل يحمل صليبه ويصعد على طريق الجلجلة ليموت. البعض آتٍ ليتفرج والبعض الآخر ليبكي ويمسح بمنديله وجه البريء المحكوم عليه بالإعدام والذي يجرجر صليبه وهو مدمى الوجه والشوك ينغرز في رأسه وخشبة الصليب تنهش لحمه وعظامه وآخر أتى يساعده على حمل صليبه وقد وقع تحته. الكل في حيرة ماذا فعل ليصلب؟ إنه البريء، الابن الوحيد لأمه. هو الذي سار على دروب اورشليم مطعماً الجياع ساقياً العطاش شافياً المرضى. هو ابرأ البرص، فتح عيون العميان، أوقف نزيف الدم، اقام الأموات، زرع الرحمة في قلوب الناس والرقة واللطف على دروب الضعفاء. آكل المنبوذين، كسر الحدود، علّم المحبّة، محبة الأعداء، والمغفرة والطوبى للرحماء. ألقى القبض عليه في البستان بعد أن باعه يهوذا تلميذه بثلاثين من الفضة. هرب بقيّة الرسل والأصدقاء والأحباء. ساقوه الى المحاكمة، تواطاؤا عليه. جلده الجند حتى الموت. قضوا الليل يهزأون يتسلّون يسخرون منه. جرد لحمه تحت السياط. وفي الصباح، تنقلوا به من مكان لآخر. تنقلوا به من قيافا، الى حنانيا، الى بيلاطس، الى هيرودوس، الى بيلاطوس. حكم عليه بالموت. غسل يده من دم هذا البريء. هوذا الرجل خذوه فاصلبوه. نعم فليصلب. دمه علينا وعلى أولادنا. حملّوه صليبه وساقوه كمجرم ولص على طريق اورشليم صعوداً الى تلة الجلجلة.

كل مدينة هي أورشليم

اورشليم قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين اليها! اورشليم الى اليوم تقتل الأبرياء من الأطفال والرجال والنساء. كل مدينة في العالم اليوم هي اورشليم بسبب الدم والظلم والموت الذي فيها، بسبب الخطيئة القائمة في وسطها، وعليها ينزل الكبريت والنار لأنها أصبحت اختاً لمدينة لوط. انها المدينة الزانية التي تعبد الجسد والمال والمجد. وانسانها هو ايضاً مدينة حمراء تشتعل فيه نار الشهوات والدنس والكذب والظلم والبغض وقساوة القلب. قلوب اهلها نحاس وعيونهم رصاص وهم قبور مكلّسة وهم حيّات اولاد افاعي. فالويل لهم!

قتل البريء شفاءً لجراحنا

يريدون قتل البريء، السيد الابن الحبيب، حمل اوجاعنا وشفى امراضنا، كسر السبت والشريعة لأجلنا من أسقط الحجارة من ايدي الفريسيين الذين يريدون رجم الزانية او يريدون رجمنا، من قال لنا سلام، سلام في قلوبنا وبيوتنا، في كياننا ووجودنا، من قال لعيوننا وقلوبنا ولإنسان الأعمى: اتفتح، «انفتح» وكان نور من جمع عظامنا المخلعة شفى نزف دمنا وبرصنا واعادنا كالابن الضال الى الحضن الوالدي فصالحنا وافتدانا وخلّصنا فقط لأنه احبنا. أحبنا مجاناً وبذل نفسه عنا، هو الذي في مجد الله الاب صار لعنة لأجلنا. ترك مجده. ترك مجده لأجلنا، بذل ذاته عنا، صار كبش فداء وهو البريء، عن خطيئتنا. حمل صليبه، صار لعنة لأجلنا ومات عليه لأجل خلاصنا. ماذا يعني كل هذا الحب وبذل الذات، هذا «الكينوز» أي الإفراغ للذات حباً مجانياً ليتغيّر مصير الإنسان. إنه الحب المجاني. أحب خاصته الذين في العالم حتى مات كفارة عنهم. طهرهم بغسل دمه.
إنها ملحمة الحب وجرح الحب النازف.
إنها الجمعة العظيمة. لكن هذا الحدث ليس هو بحدث يوم واحد. لقد ابتدأ الحدث الخلاصي العظيم منذ ابتداء يسوع بالصعود الى اورشليم بين الحقول والزيتون والوزال والليمون واللوز والجربان والبلان والشومار والربيع والزيزفون هو عائد من صور وصيدا على دروب الصرفند وقانا والجنوب وحرمون يعود وعلى ثيابه عطر زهر لبنان، ليصعد الى اورشليم ليسلّم للموت. لقد امتد الحدث الخلاصي العظيم منذ ابتدأ الصعود الى اورشليم إلى العشاء السري العظيم نهار الخميس الى الليل والوحشة والعرق دماً في بستان الزيتون والقبض عليه كلص والتجوال به من قاعة محكمة الى قاعة محكمة أخرى في سخرية الإتهام والإحكام وتزوير القوانين وكذب ونفاق الشهود وصراخ الجماعة تنبح كالكلاب، الى السبت، الى الأحد، الى العنصرة.

ساعة مات قام لاهوت المجد والفرح

إن طريق الجلجلة الى الصلب الى النزاع، الى الطعن بالحربة، الى سيلان الدم والماء، الى الصراخ إلهي إلهي لماذا تركتني، أنا عطشان، لقد تم، إنه درب واحد ساعة مات قام. إنه لاهوت المجد والفرح وليس لاهوت النواح والحزن والبكاء والندب. الفرح يسكن الفجيعة. النور يشع في ظلمة القبر. السيد قام. القبر فارغ.
أنزل عن الصليب، ووضع في القبر، وقام. ساعة مات قام. وهذا ما تجسدّه ايقونة رابولا عن الصليب المغروز في القبر الفارغ المفتوح والملاك يشير الى النسوة، انه هناك في السماء، لا تطلبن الحي بين الأموات. وهذا ايضاً ما تشير اليه ايقونة القيامة البيزنطية حيث يبان الصليب مغروزاً في قلب الجحيم ويسوع القائم يأخذ بيد آدم وبيد حواء ويعيدهما الى الحياة. هنا تقرع أجراس القيامة في قعر الموت والجحيم وتكسر الأبواب وتخلع جنبات الجحيم. فتسقط بابل القديمة ونأتي الى مدينة الله كالقادمين من الحصاد والغلال.
الحدث القيامي حدث واحد، واحد هو منذ بداية العذاب والصلب والموت ودحرجة الحجر والقيامة، الى العنصرة تمام الحضور الإلهي الثلاثي في الكنيسة جسد المسيح السرّي.
لاهوتياً الحدث واحد لا عد له في الزمن والأيام. زمنياً هو يتم في تعداد مع الناس لمنطق الزمان في ساعاتهم وايامهم وحساباتهم. انه الزمن الكرونولوجي، أي الزمن الحاضر بالتتابع والتواصل وليس الزمن اللاهوتي الحاضر كله لحظة واحدة مندفقاً كله شلالاً واحداً في لحظة بركانية لاهبة. منذ الحبل الإلهي الى التجسد الى الصلب والموت والقيامة والإنبعاث الى حلول الروح القدس في تحول كامل لتاريخ البشرية والإنسان وعلاقته بالله. فالسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم قام حيّاً.

إنقلب معنى الصليب

هنا تأخذ كلمة «صلب لأجل خلاصنا» معناً آخر. الصليب يأخذ في المسيحية في العهد الجديد معنى آخر. هو علامة الخلاص المميزة. وكل الرموز القديمة كسرت وهدمت. فبالصليب نتعمد ونوسم. طوال عمرنا نرسم اشارة الصليب على وجوهنا. الصليب هو رمز المسيحي المميز وهو يوجز البشارة المسيحية ويختصر لاهوتها كما يقول بولس في رسالته الأولى الى اهل كورنتوس 2/2 «لا يريد ان يعرف الاّ يسوع المسيح وإياه مصلوباً».
لكن الصليب في البداية كان عثرة وشكاً ولعنة ومهانة «ملعون من علّق على خشبة» إنه علامة الإثم والجريمة والمخالفة. لذلك هو ينتصب امامنا كسؤال كبير نصطدم به في حياتنا الشخصية: إنه في المرض العضال الذي لا يرجى منه شفاء. انه في العذاب المرير الذي ليس له دواء. إنه ساكن في الخيبات المرّة والاخفاقات الكاسرة للظهر انه ضربات الشؤم والغدر والكوارث القاتلة انه الموت المفجع. صليب يسوع نفسه هو مسالة معضلة عصيبة. هو البريء الذي لم يأتِ سؤاً. أسلم نفسه للموت القاسي لخلاصنا وليفتدينا قدم ذاته كفارة عنّا لأنه أحبنا وأحبنا مجاناً للغاية. هو الذي يعطي المعنى لعذاب الأبرياء والأنقياء ويعطي معنى لصراخ «كامو» القائل في كتابه «الطاعون» انه لا يستطيع أن يفهم الهاً يعذب الأطفال والأبرياء.
لذلك تحمل لأجلنا قساوة السجن ومرارة خيانة الأصدقاء وهربهم والتخلي عنه والصاقهم به الإتهامات والشهادات الكاذبة والكلام الكاذب ونار السخرية والازدراء ولسعات الشتم والسياط واهمال الله، والجميع يصرخ: تعالوا ننظر حتى أتى به بيلاطس وكأنه جمع في شخصه كل البشرية وكأن الآم الكون تجمّعت فيه وصرخ. «هوذا الرجل». هوذا الرجل في هذه الحالة الكارثية لأجلكم، وهو البريء لأجل الكثيرين يبذل ذاته حباً. ولم يصنع أي إثم أو أية خطيئة. الصليب هنا يأخذ كل معناه الخلاصي في ملحمة الحب والبذل والعطاء: «ما من حب أعظم من هذا» وصار الصليب حبـاً مخلصاً وتحولّت اللعنة كما في غلاطية (3/13) من علامة العار والإحتقار الى نهر خلاصي فدائي جارف يظهر محبة الله للبشرية الذي ترك ابنه الحبيب يموت لأجل خلاصنا. بصليب يسوع صالحنا الله. إنها دلالة محبة الله المتجردة عن ذاتها. هذا هو صوت المحبة: حمل الآمنا، طعن بسببنا سحق لأجل آثامنا. هو حمل خطايا كثيرين انه الكفّارة البريئة، الذبيحة النقية. إنه التعويض الإلهي عن جرح خطيئتنا في كيوننتنا الآثمة.

مجد المحبة.

هنا يصبح للعنة الصليب معنى مجد المحبة. إنه معنى وجودي كياني فمن أراد أن يحب يسوع عليه ان يتبعه حاملاً صليبه أي حاملاً المحبة ونحن نحمل في أجسادنا يسوع كما يقول بولس موت يسوع لتظهر حياة يسوع في اجسادنا ونعطي معنى للألم والوجع والموت والحياة، ونكمّل في أجسادنا ما نقص من الآم يسوع. يا لمجد رسالتنا في معطوبية وجودنا الفاني.
فلنلتزم بالصليب أي تلتزم بيسوع نلتزم بالمحبة والقيامة فلا معنى للمسيحية من دون الصليب المغروز في القبر الفارغ كما في انجيل ربولا حيث تعلن الايقونة انه ساعة مات قام وكما هو ايضاً في الإيقونة البيزنطية: صليب يسوع القائم من الموت مغروز فوق الجحيم وله تعطي القيامة كل مجد الحب والخلاص والفداء. يوم الجمعة عظيم. هو يوم فيضان المحبة. ولا معنى لأي حياة مسيحية الاّ في هذا الإلتزام الكياني الوجودي، الصائر أيقونة للمحبة.

* * * * * * *

كيف ذهبت الى لاس فيغاس؟

وكيف رجعت منها؟

انها افكار أولية غير صالحة للنشر بل هي للتصحيح والإضافة والحزف والتعديل.

لا أعرف ما الذي أتى بي إلى هنا. لا أعرف ما الذي جعلني وقبل أيام من بداية التعليم في الجامعة في كليّة اللاهوت الحبرية في الكسليك، أترك كل شيء وأذهب الى لاس فيغاس: برامج التلفزيون في نور سات وتلي لوميار، المسؤوليات في المركز الكاثوليكي للإعلام، المحاضرات، الندوات، الحضور الإعلامي والفكري... هكذا وبلحظة تركت كل شيء وأتيت الى هذه الصحراء الباردة. كل ما في هذه المدينة سراب ومصطنع. الطقس حار عنيف وبارد قاتل. المهمات صعبة! صعبة! صعبة! وأنا لم أعش يوماً واحداً في حياتي خارج الجماعة. كل شيء كان مؤمناً لي: الأكل، الغسيل، الثياب، الغرفة، التنقل، العناية. لا أعرف أن أصنع فنجان قهوة، لا أعرف أن أضع صحناً للأكل، لا أعرف أن أطفىء الكهرباء ولا أن أسكّر الأبواب. ماذا أتيت أفعل هنا؟ الله أحاطني بأناسٍ أحباء: مسعود يونس وعائلته، بيار دكاش وعائلته، جوزيف أبو نادر وعائلته وخاصة زوجته ساميا حافظة وحارسة أغراض الكنيسة، فيكتور موّنس وعائلته وعماد مهنا وعائلته، وبوب رومانوس وعائلته، وادوار كرم وعائلته، ايلي معلوف وعائلته، حنا سويس وعائلته، ايلي افرام وضيافته ومحبته وكرمه مع اخيه أسعد، الليلة الأولى نمت في بيته. انور القزي وعائلته، ريمون شيخاني، بيت الغزال وحضورهم المميز، فيرجينيا ولهفتها، ايلي نادر وعائلته، ناصر غانم، دكتور فياض، المهندس سميح الحويك وعطاءه واهتمامه بالخرائط والتراخيص، المهندس جورج بوغوض واهتمامه بالتصاميم والتنفيذ، رينه البواري، مايكل درباس واهتمامه بالفيلم. غابي خوّام، مع السهرات الإنجيليّة، ايلي داغر وعائلته، طانيوس داغر وعائلته، ريموندا شحود ووسام داغر وبسام داغر ونجوى داغر، ومنى عطاالله وأهلها، وحنان كبان وعائلتها، ومارون الحنش، سمير لطوف، الدكتور نصار وأهله وعائلته، جوليات حنش وأهلها، كريستيان وهبه وعائلته، وجورج مالك والصحافة، وآل تابت وأبو عبده وتوتنجي والبواري وسلمان، آل زياده واهتمامهم بالذخائر، جان حنش، جورج مالك، ميشال حنش، معلمات اللغة العربية والتعليم المسيحي وأوّل قربانة... أوجه الجميع أمامي ولو لم أذكر أسماءهم.
آمال الناس كانت متعلّقة بي. الكل يريدون أن يتحقق الحلم الذي حلموا به منذ زمن طويل وقد أخذ يتحقق بعدما اشترى الأب نبيل المؤسس الأرض ووضع الخرائط ووضع الحجر الأساس مع المطرانين منجد الهاشم وبشارة الراعي وجمع المال اللازم للعمار من أهل الرعية. جُمع المال من تعب الناس وكرمهم وعرق جبينهم. أعطوا من دمهم وحياتهم. علّي أن أكمّل! كيف أكمل والمشروع، بعد ذهاب الأب نبيل، توقفّ. من أين نبدأ والمال لا يكفي؟ والتراخيص مرّ عليها الزمن؟ وأهل الرعية لم يعد لهم من يجمعهم؟ ويهتم بهم؟ علينا أن نشحد كنيسة لنصّلي فيها. علينا أن نشحد لنجد مكاناً نستطيع أن نصلّي فيه. وأنا يصعب عليّ الطلب. كان علّي أن استعطف كهنة الرعايا لأجد مكاناً لأهل الرعيّة لنقدّس ونجتمع. كان المهم أن نجد لنا سقفاً، سقفاً لنا يأوينا ويجمعنا كلنا: مسيحيين ومسلمين، موارنة، وسريان وكاثوليك وارثوذكس وأرمن وأقباط وأشوريين من لبنان وسوريا وفلسطين ومصر والأردن والعراق وكل الشرق...
البداية صعبة! ماذا أتيت أفعل هنا؟ هذا ليس شغلي ولا عملي ولست معتاداً على هذا النمط من الحياة. أنا راهب! راهب ولست بكاهن رعيّة. أنا راهب واستاذ وكاتب ومفكر. علي أن أكمل ما ابتدأ به الأب نبيل المؤسس المغامر.
كنت أتمزق من تمزّق الناس وتمزّق الرعية وكل واحد يعتبر ان كل شيء ابتدأ معه. وكان عليّ أن أحفظ كرامة ومكانة كل فرد وكل عائلة وأن أحافظ عليهم جميعاً فالرب يسوع بحاجة اليهم كلهم فرداً فرداً وكل واحد منهم حسب وزناته. وكنت أسأل أين هم الشباب والصبايا وعلي أن أحبهم وأجمعهم حول يسوع وحول قيم اميركا وقيم لبنان والإنجيل. كان هم قلبي أن تتجدد الكنيسة بمحبتها بطقوسها بأنغامها وخاصة بصغارها وكبارها وببشبابها كنت خائفاً على شبابنا وصبايانا وكنت أطلب من يسوع أن يحفظهم لأهلهم ولكنيستهم ولوطنهم وأشكر الله انهم لم يخذلوني وقد استجابوا النداء. والجوقة خاصة مع رفيق العمر الأستاذ ادوار كرم تجددت وحافظت على قديمها وجديدها. انها نعمة من الرب.
أصعب شيء كان عندي الليل. عندما كان يأتي الظلام وتهجم العتمة على بيوت لاس فيغاس الغارقة في تلك الجورة كانت تنقطع انفاسي من صفير الريح وهجوم الظلام والعتمة ومن بقائي وحدي في ذلك البيت أكاد أموت من البرد. حتى ان لحمي تمزّق وسالت الدماء من ظهري وقدمي. وكنت أقضي الليل انزف وحيداً حتى الصباح وأنا أضعف وأضعف وأضعف ولم أكن أعرف لماذا. وينجرد لحمي عن عظمي والدم يسيل من عروقي.
أنا الآتي كي لا يسوح ولا يندهش ولا يتسلى ولا يلهو ولا يلعب ولا ينبهر بل المسحور بالحضور الروحي في هذه المدينة وخاصة بمحبسة مار شربل في مدينة الخطيئة لاس فيغاس. كيف ألهم الرب أبونا نبيل بإقامة المحبسة لا أدري؟ إنها نعمة من الله!
هكذا رحت بعد اسبوع، في الليل مع صديق لي (بيار) في السيارة عبر الشارع الطويل المشعشع أو ما يسمى Strippe وأنا أقول: مع مار شربل سأسكن هنا في محبسة وصومعة للصلاة وليس في فندق نلعب على طاولة القمار بل بوزنات يسوع. الحضور الروحي في المدينة طبعاً كان قبلنا والهم الإلهي موجود هنا ونحن أتينا بنور جاء من المشرق بنجم آتٍ من بعيد نتبعه ليوصلنا الى وجه يسوع.
غريب هذا الإختبار. كان صديقي يقود السيارة ويتكلم وأنا غارق في تفكير عميق داخلي، كيف لي أنا الضعيف أن أتحدى روما الجديدة، روما المال والسلطة والجريمة والجنس والمخدرات؟ روما الخطايا. روما الأنوار تبهرني، روما الفنادق الكبيرة تهجم علّي لتطردني كوحوش الرؤيا. رؤوس من هنا وابراج من هناك واسنان وأفواه تدفق النار والنور أشعر بها تطاردني والسيارة تسير على مهل وأنا في تفكير عميق، داخلي، أسأل نفسي أية بابل جديدة هي هذه؟ هل سيسقطها مار شربل؟ هل الحلم سيصبح حقيقة؟ ويشع نور شربل على هذه المدينة؟
تمنيت لو صَمتَ صديقي قليلاً ووضع لي بعض الموسيقى وتركني في تأملي وقلقي واضطرابي وفزعي وخوفي. شو جايي أعمل هون؟ أنا تمنيت أن آت هكذا في المساء لأزور المدينة وأقول لها اني هنا، بسلام محبسة شربل في الصمت والسكون والصلاة.
أخذ راسي بالدوار. المهمة صعبة إن لم تكن مجنونة ومستحيلة. هي المغامرة. تمنيت من صديقي العودة بي الى البيت. لم أعد أتحمل ضجيج الأفكار في رأسي. لا أحد يفهم لماذا اتخذت هذا القرار. وأنا ايضاً لا أعرف هذا السر. وأطلّ عليّ وجه الأب نبيل حاملاً عصا السواح والنساك وهو قادم ليقيم صومعة ومحبسة وكنيسة ورعية لمار شربل في لاس فيغاس. وأطلت علّي بسمة مسعود يونس على الأرض قبل ساعتين وقد امتلأ وجهه هدؤاً وفرحاً وبسمة ثم قال: أنتَ هدية من السما، منين جايي هالهدية؟ أنا كنت ماشي وحدي بالصحراء اليوم انت جيت، الحمد لله، نسيت تعبي وهمومي. أنا كان عندي عيلتي، مرتي رندا وابني غسان وكنيستي وهلق صار عندي عيلة ثانية انت يا بونا وكنيسة مار شربل. والتف حولي أهل الرعية ومجلسها: جوزيف ابو نادر، حنان كبان وآن ماري فيّاض، وميشال حنش، وبيار دكاش، وسام داغر وأهله، وفكتور موّنس وعائلته وناصر غانم وحنا سويس وكل أهل الرعيّة وشباب وصبايا الرعية وخدمة القداس بثيابهم البيضاء. وايلي داغر وعائلته واولاده، وبيت عطاالله مع كل العائلة.
أخذنا الشارع الذي يسمى Strippe باتجاه لاس فيغاس. بولفار، باتجاه البيت وأنا أرى الكنيسة الصغيرة المصنوعة من Prefabriqué وحولها السياج والناس تدور وتزيّح حولها حاملة صور مار شربل وزيت مار شربل وعظام شربل ورفقا والحرديني، ذخائر القديسين في آخر الدنيا، في صحراء الرمل وصحراء الفنادق والمقامرة والخطايا. وأسمع ضجيج الآت القمار واجراسها وحفيف ورق القمار وطأطأة حصى الطاولات او همس صلاة الليل وكرّة السبحة ونهدة الفجر امام ضياء وجه الله. يطل علي وجه شربل بإسكيمه ولحيته ووجه الغارق في الله على مدخل المحبسة سكران هو بالله. كيف أتت هذه الفكرة في قلب الأب نبيل؟ لست أدري!

العودة بعد 6 أشهر

أعود الى الصحراء، صحراء نيفادا ولا قلق عندي بل فرح بما قد تم وأنا أعرف انني هنا عابر طريق. فقط أتيت ليبتهج قلبي بان الحلم تحقق. فرحي كفرح القادمين الى الحصاد والغلال او الذاهبين الى البيادر والمعاصر. أعرف ان جرحي لن ينفتح مرة أخرى وإن لحمي وعظمي سيبقيان معي. أعرف انني سأغتسل بقداسة أرض مار شربل وسأحمل في عيني رؤيا الإنبهار من التجليات في الصحراء. قلبي منقبض من الطقس والحرارة التي أنهكت جسدي وعظامي، وأنا أرتجف من البرد هناك البرد الذي مزق لحمي ومنه نزف دمي. وإلى الآن ما زال جرحه في ظهري وقدمي وانني اقسمت انني لن أرجع الى لاس فيغاس، لكن الحلم الذي كان هناك فوق الأرض، أرض المعاد، حجران وصليب، جذبني مع محبة الناس ولهفة أهل الرعية وإلحاح الأب نبيل الذي لولاه لما كانت الأرض والمال والخرائط والحماس والإندفاع، وشوقي لأرى المشروع يقوم من الرمال بعجيبة من مار شربل، وبعزم وقرار وإصرار وإلحاح أهل الرعية وتعب وكدّ الأب نبيل ومعاونيه ومجلسه وكل أفراد الرعية لما كانت أضاءت الرمال بمحبسة شربل وقداسته.
أكتب هذا وأنا في الطائرة South West والتي تحملني الى لاس فيغاس. قمت الساعة الرابعة الاّ ربع صباحاً. في واتربري وأتى العزيز بسام الذي عمّدنا له الحبيبة ابنته غبريالا البارحة في 28 آب نهار السبت وتركت معه بيت الرعية الى مطار هارتفرد ومنه طرت الساعة السابعة صباحاً الى لاس فيغاس... دقائق معدودة تفصلنا عن الوصول الى مطار لاس فيغاس.
لا أدري لماذا قلبي يخبط خوفاً على صحتي لأنني تعذبت بقدر لا يُطاق هنا. لقد عشت جحيم الضغط والسكري والضعف وعدم الأكل والوحدة والهم والغربة والبعد عن الوطن ومعرفة وقناعة المطران بأنني لن أبقى هنا وقد تركت التعليم في الجامعة، وبرامج التلفزيون، والعمل في المركز الكاثوليكي للإعلام، والعلاقة يجب أن تكون مع الرهبنة كمؤسسة وليس معي كفرد أو شخص.
أعرف انني عابر هنا ولن اقيم أكثر من ثلاثة أيام أزور بعدها أهلي بسان دياغو وخاصة الأب نبيل الحبيب، الأقارب والأصدقاء ثم أعود بعدها مباشرة الى لبنان، حيث أجد الراحة التي احتاج اليها.
أزهرت الصحراء، قام فيها أرز لبنان والورد والعطر، وفاحت رائحة القداسة، كأنها أرض الميعاد أعود اليها، هكذا آمنا في المستحيل والغير الممكن. ما لم يكن معقولاً صار معقولاً والمستحيل والصعب صار واقعاً، وصدق ما قاله المونسنيور فوزي ايليا، النائب العام للأبرشية والذي حرّك وتابع هذه القضية في كلمته يوم قدّاس التسليم: «اذا لم تستطيعوا بعد عشرين سنة مع الأب يوسف موّنس وقبله مع الأب نبيل موّنس أن تبنوا مشروعكم فلن تستطيعوا أبداً تحقيق حلمكم، فبيعوا الأرض وارموا المفتاح على ترابها والسلام». الآن قام المشروع بفضل جهود جميع من سبقنا.
صار لنا سقف، وصار لنا بيت، صار لأطفالنا ولمستقبلنا مكان يضم الكبار والصغار والماضي والحاضر والقديم والجديد، والمذكور والمنسي والمستقبل الآتي والحاضر هنا يضج بالفرح والمواعيد والكبرياء والعنفوان والماضي والنزاع والأوجاع والتسلح والالام واليأس والقنوط والشك والشعور بالفشل والضياع والرجاء والانتصار.
هنا التاريخ حقيقة، والأماني حقيقة، والحلم واقع، والمستقبل حاضر أمام العين، والماضي خرج من الحنين والأنين وصار أجراساً تدعو للقداس والصلاة والأعياد وبقي في الصحراء صوت ورنين: آمين! آمين! آمين. شربل قهر تنين مدينة الخطيئة بفضل أولاد الرعيّة وكاهن الرعيّة.
تقترب الطائرة من مطار لاس فيغاس أخذت بالهبوط. صعدت بوجهي كل مرارة الصحراء. أشعر بالتنمّل في دمي من قدمي إلى رأسي كأنها عاصفة وجع وخوف تضربني. احمني يا الله من هذا الشعور. لا أحب هذا المكان لقد صلبني بالرغم من الإنجاز هنا مع جميع الأحباء. كأنني أعود الى درب جلجلتي. لا أريد أن أسير عليها مرة ثانية. لقد وقعت هنا من الوجع مرة وثانية وثالثة وصلبت قبل وصولي الى الجلجلة متُ قبل نهاية طريق الجلجلة والى الآن لم أقم من الآمي وأوجاعي وعذابي لكن حب الناس وارادة الحلم الذي حلم به الأب نبيل شدّتني لأكمّل ما لأجله جاء هو. يسوع! أنت أخي! ورفيق دربي! بين يديك استودع طريقي وحياتي. إلهي لتكن مشيئتك. إنه ليل البستان أعرق دماً، أرتجف. إلهي عليك توكلت. لقد وصلنا We are Landing.
الحلم هناك قائم في الصحراء. أراه من نافذة الفندق حيث أقيم. ينتصب الحلم هناك بلونه الأصفر كأنه حقل قمح تصعد منه كل الغلال والمواعيد والمواسم. الصحراء ملتهبة بالحضور الإلهي، الرمال مشتعلة والحريق يلتهم الأرض، مركبة النار هناك والأجراس تقرع للعيد، فرسان النار يخرجون من الأبواب وسيوفهم اللاهبة تزهر ورداً وياسمين. المناجل تحصد خيوراً أخصبت بها الرمال الصحراء يتجلّى فوقها أوجه الناس الموعودين بالخير وأيام الرجاء.
لقد انتهت الزيارة الساعة الرابعة. أوصلني الأب نبيل الى مطار لاس فيغاس. وضعت حقائبي، عبرت مراكز التوقيف والتفتيش. أخذت «الترام». وصلت الى المدخل C1 كان عنده مسعود يونس، أتى حنا سويس تلفنت ريموندا. رافقتنا منى عطاالله بلهفة ومحبة.
الطقس حار، حار، حار لا يطاق، أقدامي تنمّل وهي متورمة. ظهري يرعاني من الشوب والجرح فيه ما زال ينزف منذ يوم تركت لاس فيغاس الى الآن. الناس غمرتني بمحبتها. الفرح باد على أوجههم.، السعادة عندهم بلقائي.
فرح الناس بإنجاز العمل لا يُقدر. فرحهم بأن الحلم صار حقيقة لا يوصف. تركت الفندق صباحاً، تروقنا عند بيت أبي نادر ذهبنا الى عند بيت داغر ثم الى عند ادوار كرم ثم الى عند مسعود ثم الى المطار.
لقد انتهت الزيارة، الطقس صار لا يُطاق. أخرج من المدينة وجلدي معي وعظمي معي وأنا فخور بابن أخي نبيل وفرح بأهلها الأحباء لما أنجزوه وبالإعجوبة التي حققوها.

إنه نهار الثلاثاء صباحاً، لقد ابتدأت العودة

استيقظت الساعة الثانية والنصف، تحممّت، حلقت، ثم عدت فنمت بانتظار وصول العم فكتور. امرأة أخي روزيت في لبنان البيت فارغ من دونها، والأب نبيل في سفر عند الأسقف. وصل العم فيكتور الساعة الرابعة والربع. الساعة الرابعة والنصف كنا في المطار. تلفنت غريس، المعاملات سارت بسهولة. ودّعت العم فيكتور. عبرت منطقة الأمن. الركاب فوق بعضنا مع ان الساعة ما زالت باكرة صباحاً.
كنت قلقاً طوال هذه الرحلة على صحتي. أعود الآن من سان دياغو الى هارتفرد عبر واشنطن بالتمور من هناك الى هارتفرد حيث ينتظرني شربل. ينبغي لي الراحة.
تعبت أنا من القيام باكراً. نمتُ في الطائرة، وصلنا الى واشنطن بلتميور. المطار كبير. المشي ثم المشي حتى وصلنا الى B 11 الذاهبة الى هارتفرد. الساعة الخامسة وعشر دقائق سنصل الى هارتفرد بعد أن نترك واشنطن الساعة الرابعة وعشر دقائق.
وصلت الى هارتفرد كان شربل ابن أخي بانتظاري، تلفن ابن اختي موريس للإطمئنان عني، فرحت بالوصول الى البيت، الجميع كان هناك حاضراً للعشاء، تركت في الصباح سان دياغو. مع العم فكتور. أغلقت الباب تركت المفاتيح تحت الطراحة لأن روزيت في لبنان والأب نبيل عند سيدنا. وصلت الى واتربري.
Tout se termine. Tout tire à sa fin. Le mois est terminé. Demain je serai à Beyrouth.
كانت الرحلة متعبة. أعود الى حريتي. الجميع عنده مشاغله. لا يجب أن نكلفهم ونأخذ من وقتهم ومن عملهم. العشاء كان رائعاً مع الجميع. نمت عند بسام. البيت جميل ومريح.
قمت في الصباح. تحممت وتروقت. ذهبت مع بسام ونانا الى المطار.
لم يكن الحجز كاملاً. تلفنا للمكتب، بدّهم 50 دولاراً. لم يصل الحجز الى المكان اللازم. لازم ادفع 50 دولاراً سأرسلها الى فاديا التي دفعتها. لا يجب أن أنسى ذلك.
مطار اتلانتا كبير ومعركج وصعب. لا يجب أن أمر من هنا مرة ثانية. تعبت. وأنا انتظر امام مكتب A.F. الشنطة أزعجتني. لن أحملها مرة أخرى.
لقد تلفن جوزيف ابو نادر وكان معه بيار دكاش الحبيب.
عدت من السفر متعباً، مرهقاً، قرفاناً. لم أخرج من غرفتي مدة يومين من كترة وجع ظهري وكلاووي ورأسي. السفر لم يعد يرق لي. النوم، الأكل، الشرب، الناس تحيط بي بمحبة. وأنا كأنني خرجت من هذا العالم حياً وعدت اليه ميتاً.
لم أستطع أن أرى اصدقائي. لن أعيد هذه الرحلة مرة ثانية. لا رحيل ولا وجع ظهر.
أعود حزيناً مريضاً لن أسافر مرة أخرى في هذه الظروف. لم يعد عمري ومركزي وخبرتي تسمح لي بهذه المغامرات.
لقد أغلقت بابي ونوافذي ولم يعد عندي أي ميل الى الخروج من لبنان أو من راحة الهدوء والنوم واستعمال سيارتي واللقاء بأصحابي وبالوسط الذي أعيش فيه: الجامعة التلفزيون، الصحافة، المركز الكاثوليكي للإعلام.
عدت الى لبنان واخذت بالراحة.
لقد عاودت التدريس في كليّة اللاهوت الحبرية في جامعة الكسليك واحاول أن أعوّض على الطلاب ما خسروه في الفصل الأول.
لقد عدت الى موقعي الإعلامي ومسؤوليتي كأمين عام للجنة الأسقفية لوسائل الإعلام. وعاودت الإهتمام بقضايا المركز الكاثوليكي للإعلام وكتابات المقالات والمداخلات التي تخص امور الكنيسة.
طلبوا مني اعادة برامجي في نور سات وتلي لوميار. انني ارتاح الآن سيأتي ذلك فيما بعد.

في البداية لبنان وفي النهاية لبنان:

في خطابه الأول بعد حبريته ذكر لبنان. ثم توالى الاسم والقضية حتى انه من شرفته السماوية يقول لنا ما قاله للشبان في 11 ايار 1997 «كل شيء يمكن أن يتغيّر، فللشدة وقت ويأتي زمن الإنتصار». «في الواقع يعود اليكم ان تهدموا الحواجز التي امكنها أن ترتفقع في أثناء حقبات تاريخ وطنكم الأليمة، فلا تقيموا حواجز جديدة داخل بلدكم. بل على العكس من ذلك، يعود اليكم بناء جسور بين الأشخاص، بين الأسر وبين الجماعات المختلفة. وبكم نأمل في حياتكم اليومية، أن ترسوا مبادرات مصالحة للعبور من الريبة الى الثقة... عليكم أن تهيئوا لبنان الغد فتجعلوا منه شعباً واحداً، رغم تنوعه الثقافي والروحي. إن لبنان ميراث مليء بالوعود».
ونحن اليوم نعبر الى الثقة بوطننا وهو يطل على ربيع رسالته الحضارية للإنسانية والوحدة والسيادة على جباه صباياه وشبابه الذين أحبهم الحبر الكبير ورحل وهو يستودعهم الإرشاد الرسولي رجاء جديد للبنان للأيام الآنية بالعيش المشترك والمساهمة في قضايا العالم العربي والتجدّد الروحي بالأخلاق والإيمان.

فرحت بالمشروع وقد انطلق والبركة قد انطلقت.

وأمام عيني محبسة تنوّر الصحراء وقاعة تجمع أهل الرعيّة وتاريخهم وكنيسة فيها العجائب والإيمان وقرب والحلم الذي أصبح حقيقاً وشعب الله قائم هناك وجه شربل هناك وجه بونا نبيل كوجه موسى هناك أرى الساحة وقد أزهرت والبرية وقد غمرتها أوجه الأولاد والناس والغلال وأنا أرنمّ: حسبي أن أكون خادماً في بيتك. آخذ كاس الخلاص وأفي نذوري للرب.
لا أنسى بلاطات للذكرى وذخائر القديسين: شربل، رفقا، الحرديني، التي قدمها آل زياده واهتم بها ايلي معلوف وزوجته فيرا. لا أنسى شجر السنديان والزيتون والكرم التي زرعت في الساحات، لا أنسى مغارة عيد الميلاد وشجرة وزينة عيد الميلاد وقد اهتمت بها ومروان نجوى داغر زوجته وريموندا شحود. لا أنسى بلاطات تكريم القدامى الذين لهم الفضل في الرعية، لا أنسى معي اليوم الذكريات من الشباب والصبايا، وقد اهتمت بها ريموندا شحود، لا أنسى خاصة الغداء الأخير وقد قدمّه بسام ووسام داغر، لا أنسى المكتب وآلة التصوير والكمبيوتر وقد قدّمه ناصر غانم واهتم به حنا سويس، لا انسى التلفون وقد اهتم به طوني نادر، لا أنسى أساس البيت والسيارة وقد اهتم به مسعود يونس وامرأته رنده، وقد أكملت وأشرفت على نظافة البيت والأغراض منى عطاالله، لا أنسى البراّد الملآن من محبة أولاد الرعية، لا أنسى «الخادم الأمين» الشماس «الحاضر ناضر» بيار دكاش كان يرافقني كالملاك الحارس، لا أنسى تلفونات وحضور الأب نبيل لتشجيعي على متابعة المسيرة.
لا أنسى تساعية الميلاد مع أهل الرعية الأحباء يتكوكبون على بعضهم البعض كباراً وصغاراً ومارك كرم يعزف على الأرغن الألحان المارونية القديمة في صالون البيت الصغير والبرد خارجاً لا يُطاق والريح تصفر فوق الصحراء وفي الشوارع وزوايا البيوت، لا انسى جورج كوسا ومطبعته وكتب القداسات ومار شربل والروزنامة وقد اندفعت الرعية لشرائها والمساهمة بعمار الكنيسة يقوم بذلك سيدات فاضلات.
لا أنسى مساعدة بشير كرم وامرأته وبيت غزال وحنان كبان وخاصة جوليت حنش في تحضير النشرة الرعائية والرسائل الإلكترونية. لا أنسى تساعية الميلاد مع أهل الرعية كباراً وصغاراً جالسين في صالون البيت الصغير والبرد والزمهرير خارجاً والريح تصفر فوق الصحراء وفي الشوارع وحوالي البيت. لا أنسى صلوات مار شربل وكتب مار شربل وروزنامات مار شربل وعجائب مار شربل، لا أنسى ساميا ابو نادر واهتمامها بالبريد مع عائلتها. لا أنسى اهتمام الجميع بتحضير الحفلات والإحتفالات وموسيقى الشباب، ولا أنسى الدكتور كريم اسحق ودروسه العربية، والدكتور القديم في الرعية، جاك أيوب، والمرحوم كلود عبود، المساعد والكريم، وحزن سلوى حنينه على أخيها، واهتمام جوزيف الراعي وتلبيته النداء في مدينة نسي بعض الذين صار عندهم الأصول والمراكز والأعمال والفنادق، نسوا جذورهم اللبنانية وانتماءهم الى بلاد الأرز، ولم أعرف وجوههم أو أتلقى أية مكالمة منهم. تتمنى لمشروع القداسة في مدينة الخطيئة النجاح، ولكن مار شربل سينجح بنعمة السماء ومحبة أهل الرعيّة الطيبين. لا أنسى الحمام في الصباح مع الشحارير وعصافير الدوري والقركدن، تجتمع لترويقة الصباح، والجيران تصرخ من هذا العمل الغير المقبول. لكن ما همّ انهم أصدقاء الصباح. والصديق مارون حنش واذاعته، ورائد موري السرياني وعمادة ابنته، وجورج وماري غصن، والحادث الكبير لإبنهما، وايلي حبشي ولهفته وزوجته، ومارون بصيبص ومحبته، ونقولا منصور المثقف، والصحافة، خاصة «بيروت نيوز» والصديق الأب بولس معوّض، والدكتور الياس ايوب. والصديق جورج الحاج الأصيل في تجذره وأخويّة القديسة ريتا والنساء فيها وعائلة القديس شربل.
لا أنسى اهتمام الدكتور جوزيف فياض بي مع الفرمشاني وأنا أنزف دماً وهو الى اليوم ما زال يتابع الإهتمام. لا أنسى زيارة أهلي لي وقد أتوا من سان دياغو أو من واتربري: روزيت، تريز، نعمةالله، عبده، المتابع للعديد من القضايا، بشارة، غريس ابنة أخي المهتمة بالكثير من الأمور، لها شكري. كريستين، دودو، وميكي، والشباب بديع وشربل، نانا ابنة اخي الغالية، وحنة امرأة أخي، وبيار موّنس ابن اختي، وخاصة الأب الحبيب نبيل والكثير غيرهم من الأهل والأصدقاء والأحباء، كالعم فيكتور زبليط وابنه الدكتور كريم زبليط الذي عالج نظري، والدكتور منصور مع زوجته كلير الآتيين من لوس أنجلوس، والصديق جو مارون الآتي من سان فرانسيسكو، وجورج ايوّب من سان دياغو، والخوري غطاس خوري من فونيكس، والمونسنيور فوزي ايليا، النائب العام الحبيب والمشجّع، واتصالات الأب الصديق اندره مهنا، ومحبة واحترام ودعم سيدنا المطران روبرت شاهين، راعي الأبرشية، وادي سليم والعديد سواهم من الأصدقاء والأحباء. والدكتور جان سعد وزوجته، في سان دياغو، والفرمشانية مارسيل خليل في سان دياغو، والحكيم مارك رعد في واتربري.
آمل أن يُحَضّر البروتوكول مع سيدنا قبل المجيء الى لبنان لأنه صعب على أن أعود الى أميركا اذا لم يكن البروتوكول قد اكتمل. الرعية وملكها والإشراف عليها يبقى لراعي الأبرشية، خدمة الرعية تقوم بها الرهبانية تحت اشراف المطران وولايته. لن أعود الى لاس فيغاس دون برتوكول واضح ومكتوب بين المطران والأب العام فأنا لست خوري رعية بل راهب يخدم كنيسته في رعية الملك فيها للأبرشية والإشراف عليها لسيدنا وخدمتها مؤّمنة من الرهبان.
لقد تحملت في جسدي أكثر من استطاعتي حتى ضعفت ونزفت ساقي وظهري من فرق الضغط المناخي ولعب معي السكري.
فلن أعود الى هذا الواقع دون التفاهم على دور للرهبانية في اميركا. وإذا كان هذا الدور مرحب به أم لا. لأنني أشعر ان الرهبان مرحّب بهم، أمّا رهبانية شربل ورفقا والحرديني فهذا موضوع غير مرحّب به لأنه مشتبه به للَعِبِه دوراً سياسياً ودوراً ثقافياً ودوراً اقتصادياً غير مرغوب به في اميركا.
أعتقد أن هنا مفهوماً للكنيسة فيه الفرق الكبير بيننا لأنني اعتقد ان من أسس بنيان الكنيسة قيام الأديار والصلوات والرياضات والمدارس والعمل والمؤسسات الإجتماعية والثقافية والزراعية وكنيسة اميركا المارونية الى الآن، أغلقت امام نفسها هذا الإختبار فالحمد لله ان الرهبانيات الأخرى فرنسيسكان، يسوعيون، بندكتان، دومنيكان كانت هناك، لأن الرهبنات هي من أساس بنيان الكنيسة وتمام ركائزها.
وأنا قد عدت أنطلق من حيث ابتدأت.
* * * * * * *

كلام الله لنا سر صمت واشارات

- كيف يكلّمنا الله؟ بماذا يكلّمنا الله؟ ولماذا؟

أين أسمع صوته؟ وأين أصغي إليه؟ أين أراه يكلّمني؟ وأين أسمعه؟ فتتحوّل الرؤيا سماعاً وذهولاً وسكراً؟ أنمحي وأتلاشى كي لا أقول أنحلّ أو أذوب، فلا أكون أنا بل يكون هو كما قال، وأنا أضمحلّ!
أراه، أسمعه يكلّمني عندما أرى شمسه وقمره ونجومه وثلجه، وأسمع صرير الريح وهدير البحر وعجيج المياه.
أسمعه في زقزقة الطيور، واراه في عيون الأطفال وصمت الشيوخ وثقل الأيّام وهمومها على جباههم.
اراه في انقضاض الصقور والعقبان والبواشق والنسور والكواسر على طرائدها، واندفاع النمور والفهود والأسود وراء فريساتها، وجري الخيل والغزلان بجمال تناسق اجسادها، وسفر النحل ورحيل الطيور والسنونو والورور والبجع والشحارير والزرازير.
يكلّمني بصوت البلابل والحساسين، وفي نعيق البوم في الليل، وصأي الصوت يخيفني، يجعلني أصلّي كي لا يأتي الويل ويضرب الشؤم بيتنا.
أسمعه يكلّمني في الندب ووجع العيون على فراق الأحباء. والحداء والزلاغيط، وأراه في الرقص أمام العرائس فرحاً، أو أمام التوابيت تلوعاً وتفجّعاً حتّى الإغماء. الله هنا في تفجّر الفرح أو الأنين والصراخ والنحيب.

2- المبادرة الأولى دائماً لله وهو يمشي إليّ:

آه، سمعتك تمشي في الوديان كما في بداية الخليقة مع نسيم المساء في الفردوس. في السهل أو في الجبال، تأتي تسأل عنّي، وأنا في عري وجودي ألُفّ جسدي بخطيئتي وبأغصان الوزّال والورد البَرّي وأعطّر ذاتي بالحبق والزعتر والقصعين والمردكوش، وأخبّىء نواقصي بأغصان الدلب والدوالي والعفص والبيلسان والنسرين والزنبق والرياحين وباللافند والزيزفون، لأنني خدعت نفسي بجمال غير جمالك وحبّ غير حبّك. آه، ظننت الدخان مرمر ثابت، والفناء بقاء كالخلود.

3- الله يسكن السماء والأرض:

يا ربّ، كلّمتني بالبراكين، بالنار، باللهب تقذف الحمم وتمجّد عظمتك، كلّمتني بالزلازل تَهُزّ الجبال وجلد الأرض فترقص التلال، وتندفع الرياح والمياه، وتقتطع الأشجار والأساسات كاللعب. لا يقف شيء أمام قوّة الرياح والمياه والنار. كلّ شيء يصبح لهواً ولعباً لقوى الكون والخليقة.
كلّمتني بنغم يأتي من قصبة تشقّ، أو من جلد حيوان يصبح وتراً وأنغاماً، أو من نحاس يتحوّل زفيراً وتنهّدات، أو من حنجرة إنسان تعطي صوتاً جميلاً رائعاً تسكنه السماء والهياكل والحنين، أو من رنين حنجرة تضجّ بنخوة الرجال وتوجّع العذارى، أو من عشق الشبّان وفرح الأطفال، وصلاة الزاهدين في بوح المناسك وهمس الصوامع.
تكلّمني بحضور أناس تيجانهم نور، وعصيّهم قصب، وصلبانهم خشب وقلوبهم من ذهب.
تسكن يا سيّدي السماء والأرض كل شيء وتكلّمنا في كلّ شيء. كل شيء نشيد لك وحديث عنك! كتابك المقدس كلام لي، ومزامير الأنبياء كلام لي، وصلوات وأناشيد الآباء والقديسين كلام لي. افتح أذني وقلبي وعقلي وداخلي لأسمع وأصغي وأعيش.

4- كاهن قريتي كلّمني عنك:

عندما وقفت أمام شلالات الأرض، سمعت صوتك يهدر فيّ وفي الكون. كلّمتني بصمت وسكون البائسين المقهورين، المظلومين والبكم. كلّمتني بعيون العمي يتلَمّسون دروبهم إليك، كلّمتني بصوت كاهن قريتي يوم عمّدني ونفخ فيّ الروح القدس والبسني إيّاك وصرتُ خليقة جديدة.
كلّمتني بصوت أبي وأمّي وإخوتي وأخواتي وجميع أصدقائي وأحبائي. كلّمتني أمام سرّ الموت عندما مات أحبّائي، كلّمتني بأصوات الشمامسة في قريتي يلتفّون حول القرّاية يصلّون ورائحة البخور والشموع تملأ الكنيسة، وعرق الناس العائدين من الكروم والحصاد وتمتزج بعطر المباخر ومعهم قرابين من حَبِّ الحقول وعناقيد الدوالي.

5- ما زلت أنتظر وصولك:

كلَّّمتني بصوت الراهبة الّتي علّمتني حبّك وخفوك وما زلت إلى الآن، لأنّني صدّقتها، أنتظر نجمتك الميلاديّة فزاغت عيناي وأنا أنظر إلى السماء. هل حقّاً تأخرتَ عن الوصول مع الملوك المجوس، وسيقتل هيرودس أطفال بيت لحم وأطفال العالم سيموتون تحت القنابل!
كلَّمتني، وأنا أنام على الثلج راسماً لك بجسدي الطريق إلى الكنيسة، لأنك قادم ليلة الميلاد مع الرعيان والمجوس والملائكة، وأنا خائف عليك أن تضلّ الطريق إلى المغارة ويلفحك البرد قبل أن تصل إلى الكنيسة لتتدَفّى، وتلفّك أمي وأخوتي ونساء قريتي بشالهن الصوفيّ الكبير.

6- كلّمتني في الشكّ:

كلّمتني في الشكّ وفي ساعات الظلمة في العيون الّتي تراوغ والأفواه الّتي لا تقول الحقّ وتكذب بوجهك، وقلت: أنا الحق والطريق والحياة. وهنا فجر لكلّ ليل، ونور بعد كل ظلام وحياة بعد كل موت. كلَّمتني في الشكوك التي حولي، والتي أنا سببها، وأنت قادم على البحيرة، وأنا أصطاد طوال الليل الفراغ والعبث، هكذا عمري شباك فارغة، وأنت وحدك على الشاطىء تعدّ لي طعام الحياة، وأنا اقول لك: لا ليس عندي شيء لأطعمك. كلّمتني وأنت تملأ عمري وسلالي بالخبز والسمك، وأنا اقول لك: إصرف الناس عنّي، فأنا لا شيء عندي لأطعمهم!! الفراغ! هكذا عمري وأيّامي قضيتها وأنا أعدّ لك صلاة وأناشيداً أتلوها عندما تأتي؛ وعندما أتيت، سحرني جمالك ونسيت أنغامي وأوتاري ولم أجد شيئاً لأعطه لمن أعطيتهم لي. مليء أنا بالريح وليس بالنعمة. قفيري لا عسلَ فيه، وبيادري لا غلال عليها، ومعاصري تطنّ فيها الدبابير والزراقط، وآباري لا ماء فيها. أنا نحاسٌ يرنّ وصنج يطن، لذلك أصلّي: إجمع أهوائي لأطحنها خبزاً لموائد الجياع إليك وقد اعتقدت في كبريائي وغروري أنّهم جياع إليّ وعطاش إلى قحطي وجفافي.

7- كلّمتني في البقاء والعبور:

كلّمتني عندما تمرّ الطيور العابرة وأشهد: أنت الباقي! هي تعرف دربها من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال، وأنا لا أعرف طريقي إليك، وأنت حاضر في داخلي وحولي. الشمس الصباحيّة نعمة منك عندما أفتح عينّي، عندما أنزل من سريري نعمة منك، أصابعي الّتي تلامس جسدي نعمة منك. نهاري الّذي اسير فيه وعقلي مشغول بكَ، وقلبي يخفق بالحياة والحبّ، وعيناي تضجّان بالنور والضوء، وأذنيّ بسماع اصوات الناس، ودمي الّذي يجري في عروقي، ويداي اللتان تتحرّكان، وقدماي اللتان تسيران، أنا الّذي بين يديك بحركاتي المتناسقة، بعظامي المتماسكة، بجلدي الذي يغطّي لحمي.
تكلّمني، تكلّمني، تكلّمني بهذا الصمت الكبير الّذي يضجّ في كياني وجسدي وسرّ وجودي، وفي الكون والنجوم والريح.

8- السرّ الكبير كلام عنك:

السرّ الكبير يضجّ في الكون يكلّمني: في قداسة القدّيسين الّذين عاشوا لك، وقالوا لك وعنك في حياتهم كلاماً كبيراً لا افهمه. في الشهداء الّذين قدّموا لك دماءهم في سرّ حبّ لك، لا أدرك سرّه. في الناس الطيّبين، الفلاّحين، الرعيان، رعاة البقر والغنم والماعز، نواطير الكروم، مكاريّة الجبال البسطاء الّذين يطعمون الدجاج في الصباح أو يحلبون الماعز والبقر في المساء، مَن يفرطون الصنوبر أو يقطفون التفّاح والإجاص والكرز والدَرّاق والمشمش واللوز والجوز والموز والزيتون وكبوش التوت والعلّيق. في خوابي السمن والدبس والزيت ومسامن القورما وجرار التين.
في أهلي، وأحبّائي العائشين لك بالنعمة والقداسة والإكتفاء والقناعة. حياتهم كلام كبير عنك، كم حاولت أن أصغي لك فيه، لأنّني أعرف أنّك بين الودعاء وطيّبي القلب. تسكن مع أعشاش الدوري في بيتنا أو مع دجاجة تحمي صغارها، أو مع بقرة تضع فلوّها فتصبح عيناها بحيرة حنان لا تنتهي، ولا حدود لها.

9- الأوجه المتعبة تكلّمني:

يا ربّ، تكلّمني بوجوه الكبار المتعبة من الأيّام وهموم العمر، ومرّ السنين، وفرح وانكسار الأيّام. تكلّمني بوجوه الأطفال الصافية تحمل ربيع الأيّام وبريق النقاء والبهاء والضياء.
تمُرّ أنت هنا مع الفجر، تمرّ مع نسيم المساء، أسمع وقع خطاك. إنّك هنا، إنّك السيّد تضع خطاك مع خطاي على طريق العمر وطريق عمّاوس. ولا أعرف أنّك هنا معي تكلّمني، تسير، لكنّني أعرف أنّ قلبي يحترق، يحترق، يحترق. اعرفك أنّك آتٍ على المياه. أنت السيّد تأتي مع الليل، تأتي مع الفجر، تأتي مع المساء وساعات الكآبة. تحضر لتسير قربي تكلّمني واسألك: لمَ أنتَ غريب هنا ولا تعرف ماذا يحدث؟

10- نترك غلالنا نصيباً للطير والناس:

كنّا نترك لك من غلالنا نصيباً لتأتي مع طيور السماء والناس الفقراء تأخذ منها زاداً لكَ. كنت تصل وعليك عطر رمّان وأقحوان ووزّال وزيزفون وشعشوع وبلاّنٍ وجربانٍ وسمّاق وريحان وحنبلاس برّي.

11- تكلّمنا في الصمت:

في الصمت تكلّمني! لذلك سأصمتُ وأصغي وأنت في كلّ شيء كلام صامت لا ينتهي، وعليّ فقط أن اقول: تكلّم يا ربّ، فأن عبدك يسمع! أوقفني عن الثرثرة، عن التكلّم على ذاتي والتبجّج بها، وعلى أنّني محور الوجود والكلام والذهول من أمجادي وأعمالي وأفكاري وذكرياتي. اضرب فمي بالخرس كي لا أتكلّم على ذاتي وأتباهى. أضرب عينيّ بالعمى كي لا ارى إلاّ نفسي بعُجب وادّعاء، وأنسى جمال الآخرين، وأنسى جمال وجهكَ. لِتُصَمَّ اذانيَ عن الإصغاء إلى سماع ذاتي لذاتي والإصغاء ايضاً إلى صوت الآخر ولو لم يتكلّم. دعني أعطه الوقت ليتكلّم وأنا الكرم لأصغي له.

12- كلامي عن ذاتي لذة فيها الموت:

هكذا، أنا أتكلّم، استجدي المديح والمجد، وليس لأمجّدك وأمدحكَ. كلامي تهليل وتعظيم وتمجيد لذاتي: «سبحاني، ما أعظم شأني»، هذا هو الكلام الّذي أنشده لذاتي وهو نشيد موتي. ايتها الكلمة الّتي كانت في البدء، دعني ألاّ آخذ مكانك في الكون وفي قلوب الآخرين وفي حياتي. دعني أعرف أنّني سريع العطب، وأنا آنية من خزف، وأحمل بعض الحطب من آثام غروري وعنجهيّتي وعنادي وقساوتي وأسكن ذاتي وأضرب طبول كبريائي، ولا اسمع إلا ضجيج نفسي، فارحمني اللهمَّ. دعني أترك لكَ وقتاً لتتكلّم، ومكاناً لتحضر. دعني ألاّ أموت من صخب ذاتي لذاتي وضجيجها. وأعرف انّكَ تأتي بالصمت والسكون!
* * * * * * *

ريش قريان أو الذاكرة ضد النسيان

«ريش قريان» كلمة مُشتقة من اللغة السريانية: فوروش قريونو أي القراءات المختارة للفروض البيعية Lectio selecta مقابل القراءات المتتابعة للكتاب المقدس.
«ريش قريان قزحيا» 1841 أعدته ونشرته الأخت مارسيل هدايا ضمن سلسلة منشورات جامعة الروح القدس – الكسليك معهد الليتورجيا، 38( 2007).

سبق ونشر الأباتي يوحنا تابت أقدم مخطوط ريش قريان ماروني (1242م) المعروف بمخطوط سلمنكا في سلسلة المنشورات ذاتها تحت رقم 9 (1988). وأتت اليوم الأخت مارسيل هدايا الاختصاصيّة والباحثة في العلوم الليتورجيّة والأستاذة في معهد الليتورجيّا في جامعة الروح القدس الكسليك، تقوم بإعداد ونشر وبحث في أهمية وميزة وغنى القراءات الواردة في ريش قريان قزحيا الماروني المطبوع بالحرف السرياني في مطبعة قزحيا سنة 1841م. وكانت المرة الأولى والأخيرة لطبع هذا الريش القريان الذي استقت منه الكنيسة المارونيّة طوال قرون في ليتورجيتها. هذه القراءات هي المنبع المستند على العهدين القديم والجديد (باستثناء الانجيل). بلغ عدد القراءات 719 قراءة: منها 375 قراءة من العهد القديم و344 من العهد الجديد. هذه القراءات موزعة على السنة الطقسيّة بقسمين. قسم يتبع الحساب الشمسي والقسم الآخر يتبع الحساب القمري.
من البديهي الإشارة إلى أن الكنيسة المارونيّة تغذّت من هذا النبع في روحانيتها تلاوة فروضها البيعية على مدار السنة الطقسية، كما في احتفالاتها وأعيادها نهلت من هذا الينبوع كلمة الرب المعاشة صلاةً وتأمّلاً واحتفالاً طقسيّاً.
تأتي أهمية هذا «الريش قريان» على أنه أول كتاب قراءات كتابية ماروني طُبع في مطبعة قزحيا سنة 1841م العائدة إلى الرهبانية الللبنانيّة المارونية. من بعد هذا التاريخ لم يعد يصدر هذا الكتاب بالحرف العربي. من اللافت والمهم، وبالمقارنة مع مخطوط الريش القريان القديم (1242م= سلمنكا) الذي نشره الأباتي سنة 1988 والريش قريان قزحيا، يتبيّن بأن واضعي هذا الأخير لم يكونوا على علم بمخطوط سلمنكا عند طبعهم كتابه الوحيد للقراءات سنة 1841.
أضف إلى ما سبق إن المعطيات الموجودة في هذا الريش قريان تتطابق مع النص السرياني المترجم للكتاب المقد س، المدعو «فشيطو» أي البسيط. ويُبان من عدد القراءات البالغ عددها 719 قراءة، أن هناك ظاهرة مهمة لهذه القراءات، فمنها ظاهرة القراءات المعادة، ومنها المُتتابعة، ومنهـا المركبة. إن دلّت هذه الظاهرة على شيء ما أقّله أن كاتب النص له إلمام واسع بالكتاب المقدس مع نظرة لاهوتيّة عميقة.
هذا الكتاب الهام يصدر للمرة الأولى باللغة العربية. وهنا تكمن أهميته للذين لا يتقنون اللغة السريانية أو نسوّها أو يجهلوا غناها وجمال وعمق لاهوتها. وقد ظهر ذلك في النصوص التي استُعملت من قِبل لجنة الاصلاح الليتورجي الجديد التي عادت إلى الينابيع والجذور والكنوز في الصلوات والفروض بعد جهد قامت به اللجان الليتورجيّة لأكثر من مدة عشرة سنوات.
الموضوع الأهم هنا، في هذه الدراسة هو البحث والسؤال عن الينابيع التي استقى منها ريش قريان قزحيا وكيف تطورت؟ ومن هو واضع هذا النص الهام؟ وهنا راحت الباحثة الرصينة والعميقة والدقيقة، الأخت مارسيل هدايا، لتستطيع الإجابة عن هذا السؤال، راحت تسأل كتابات ومراجع الباحثين الذين سبقوها في هذا المجال ومنهم: نهاد رزوق، وهو باحث كتب عن جرمانوس فرحات، والأب انطونيوس شبلي، واسحق ارملة السرياني، والمطران بطرس ديب ، والمونسنيور ميشال حايك والأباتي يوحنا تابت.

الخاتمة:

في إعداد هذا الكتاب ونشره، فتحت الأخت مارسيل أمام الباحثين في الكتاب المقدس آفاقاً واسعة ليتسنّى لهم معرفة ينابيع هذين التقليدين وتطورهما ومصيرهما. لأن المقارنة التي قامت بها أظهرت بان مخطوط سلمنكا وريش قريان قزحيا المطبوع يمثّلان تقليدين مارونيين مختلفين للقراءات.
في كلّ هذا العمل الطويل استندت الأخت مارسيل على منهجية علمية رصينة، بدايةً بمقدمة علمية مفصّلة إلى نشر النص بالعربي مع تبويبه، وصولاً إلى وضع ثلاث ملاحق مهمة وخاتمة. هذا الضنك العلمي لنبشّ الجذور والكنوز الأنطاكية السريانيّة المشرقيّة تناوب عليه علماء موارنة، نذكر منهم في الزمن المعاصر الخوري يواكيم مبارك، المونسنيور ميشال حايك، والأباتي يوحنا تابت الخ.
وأتت الأخت مارسيل تتابع هذا المسار في الكشف عن هذه اللآلئ في غور النسيان. أعرف أنا شخصيّا هذه الراهبة الساهرة وراء مكتبها وأوراقها مكرّسة حياتها للبحث العلمي الدقيق حتى تقرّح العينين وانحناء الظهر ووجع اليدين والرجلين. أليس هذا ما فعله أيضاً الأباتي بولس نعمان مع الأخت بندكت كوشوا عندما نشرا كتاب نمرون الباني؟
وحدها الثقافة تعطي للشعب مجدها كما كان ذلك في أتينا وروما وأوروبا ولبنان ... وليس الثرثرة السياسية والركض السياسي. وحدها ولائم الفكر والقداسة تبقى، أما ولائم اللقاءات السياسية فستذهب مع الريح وسيأكلها الزمن والنسيان ولن تضيف أيّ مجد على مجد إرث الآباء والأجداد.
* * * * * * *