الخميس، 12 فبراير 2009

الياس سركيس، كما عرفته في مؤتمر في الجامعة الأنطونية حول رئاسة الجمهورية في لبنان



الياس سركيس كما عرفته
في مقدمة كتاب مالرو: السنديانات التي تُقطع Les chaînes qu’on abat.
يقول أندره مالرو: إنه «سمع صوت كل فرنسا تولول في صوت امرأة تبكي الجنرال ديغول عندما عرفت بموته في قريتها في Colombée les deux Eglises، وأتت الى بيته لتراه».
الياس سركيس ابن الشبانية، ضيعتي، ابن النجار، ابن الصنوبرات الفالشة ازرعها كالمظلات، ضيعة المشايخ والرهبان والأمراء والطرحات البيض والعمائم والتعايش الدرزي – المسيحي. الياس سركيس عاش وحيداً ومات وحيداً وساعة موته لم تولول عليه النساء. وحيداً متصومع في النسك الذي طبع الرئيس فؤاد شهاب وهو طابع يميّز العائلة التي هو منها وأتى منها أحد مجددي الحياة الرهبانية في العيش الزهدي والنسكي ألا وهو الأب العام المحترم جناديوس سركيس.
انتخبَ في العاصفة وعاش في العاصفة.
الجنون يضرب الوطن والسماء تمطر قذائف من كل جهة. الجيش تَفكَك. كل عسكري التحق بأهل دينه. على الأرض قوى الأمر الواقع تُمسكُ والناس والبواريد والمدافع والفلسطينيون يبحثون عن الوطن البديل وقد طاب في أعينهم لبنان. فليُطرد المسيحيون من هنا. وكما طُردوا هم من أرضهم وتركوها أو باعوا قسماً منها، فلَم يَبقى المسيحيون هنا فلنطردهم من أرض الإسلام وليذهبوا الى الجحيم أو الى الغرب المسيحي كما يزعمون أو الى كندا، أو الى صحراء الجزائر. ونسوا ان المسيحيين هم هنا منذ بداية التاريخ، وهم الشعب الأصيل الذي كان قبل المسيحية وقبل مجيء الإسلام.
في ذلك الجو المجنون المشحون، أُنتخبَ الرئيس الياس سركيس، والفلسطينيون يمسكون بالأرض والناس والسلاح حتى ان البعض اعتبرهم جيش الإسلام السنّة وهم أخوة للمسلمين. وانقسم الوطن القائم على ركيزة العيش المشترك والمصير المشترك وان يكون لبنان نموذجاً حضارياً لتلاقي الأديان وحوار الحضارات.
شباب المقاومة اللبنانية يدافعون ويستشهدون لأجل بقاء الوطن الحلم وأرضاً للحضارة المسيحية القائمة على الحب والمغفرة واحترام الشخص البشري وحفظ حريته وكرامته والإعلان ان جميع الناس وُلدوا أحراراً من بطون أمّهاتهم ولا فرق بينهم في الدين والجنس والعرق واللون.
أذكر كيف عاد الرئيس سركيس يوم انتخابه الى بيته في الحازمية وحيداً ولم يكن معه إلاّ بعض عساكر يحرسون الأبواب. يومها التفَّ حول الرئيس الأصدقاء والأحباء من مسلمين ومسيحيين. يجتمعون حوله كرمز وحدة البلاد المقّسمة بين أيدي الميليشيات و«باشاوات» الأحياء: من جهة، ابراهيم قليلات ومن معه، من جهة أخرى الحزب الإشتراكي ومن معه؛ بقابلهم داني شمعون ومن معه، وبشير الجميّل ومن معه، والتنظيم ومن معه، حراس الأرز ومن معهم، الباش مارون ومن معه، والجميع يقاوم ولا يريد أن يتنازل لا عن سلاحه ولا عن الأرض ولا عن الناس الذين يسيطر عليهم. ومرافق الدولة من مطار ومرافىء كبيرة صارت بين أيدي الميليشيات واداراتها المدنية تدّر المال والجاه.
رئيس النعم وللاّ
لم يبقَ للرئيس سركيس الاّ رمزية شخصه على كونه وحده يمثل وحدة لبنان وله وحده القرار وشرعية القول والتمثيل والقدرة على القول نعم أم لاّ
هذه «اللا» هي القدرة التي حكم بها الرئيس الياس سركيس. قال «نعم» للبنان العيش المشترك الواحد السيد الحر المستقل وقال «لا» لجميع الهاجمين على تمزيق لبنان او وضع اليد عليه. قال اولاً «لا» لسوريا ولحافظ الأسد. قال «لا» لإسرائيل ولشارون الذي كان يعبر بدبابته قرب القصر الجمهوري صاعداً الى بحمدون. قال «لا» لأسلمة لبنان. أو لجعل قسماً منه «مارونياً» ليسهل الإنقضاض والإطباق عليه من جميع الأصوليات والسلفيات والعصبيات العاصفة بالعالم العربي والإسلامي: من الوهابيّة إلى الخمينية، إلى القذافية إلى الحركات الرجعية الضاربة عقول وأفكار العديد القادة والمفكرين من المشايخ والناس. أو قطع مصادر المياه والغذاء.
التوطين أو الموت تحت الركام
التوطين كان الهاجس الأكبر الذي رفض الرئيس أن يوقّع عليه أو يقبل به، وهذا كان أَيضاً هاجس كل المحيطين به والمقربين منه: المغفور له رئيس الحكومة شفيق الوزان الصديق الوفي، فخامة رئيس الجمهورية رينه معوض، الرئيس الياس الهراوي، الوزير فؤاد بطرس، ورئيس المخابرات جوني عبده، أطال الله بعمرهما.
كانت ليلة مجنونة من القصف والقنابل المتساقطة على قصر الرئاسة. وكان سايروس ﭭانس وزير خارجية اميركا قادماً ليقابل الرئيس الياس سركيس في الصباح. وكان ضغط القذائف المتساقطة على القصر الجمهوري يجعل منه جحيماً لا يُطاق. الرئيس نزل الى الملجئ تحت الأرض مع أقرب المقربين اليه، اذكر منهم جوني عبده وفؤاد بطرس والياس الهراوي ورينه معوض. طلبني إلى الكسليك لأصعد اليه. فقلت له كيف يمكن هذا والقذائف تُحرق الأرض؟
عبرتُ يومها عن طريق نهر الديشونية ووصلت الى القصر تحت القذائف. جلست مع الرئيس وباح لي: إن هذا القصف لقتلي أو لكسر ارادتي وللتوقيع على التوطين. ثم اضاف: يا بونا بدن يقتلوني إذا ما بوقّع بكرا مع سايروس ﭭانس وزير خارجية اميركا على توطين الفلسطينيين في لبنان. وأنا لن أوقّع، أرجوك ان تحفظ هذا السر في قلبكَ لوقته وتعرف لماذا يريدون أن يهدموا القصر الجمهوري على رأسي. صلّي لي ودمعت عيناه وقبلني وصلينا معاً وأعطيته البركة وودعته وذهبت.


زحله وحصارها والإعتصام على طريق القصر
واشتد الصراع بين السوريين والفلسطينيين وجميع المرتزقة الذين يريدون طحن اللبنانيين والتقدّم الى المتن الأعلى حتى والوصول الى عينطورة ولم يبقَ أمامهم إلاّ الإنحدار الى جونيه «لأن طريق القدس تمر في جونيه»، يومها حُوصرت زحله، وتقدّم الجيش السوري على طريق الشمال في قنات وكور والمعارك الطاحنة في دير بلا والاستشهاد والموت على جميع الجبهات مفتوحة في الداخل والخارج. الجيش السوري ومن معه يريدون كسر المقاومة والإرادة اللبنانية.
وكان اعتصام رهبان وكهنة وراهبات زحله وانضم اليه الكثير من اخوتهم الكهنة والرهبان والراهبات وكان يزورهم المرحوم الأب اسطفان صقر، والحبيس الأب يوحنا خوند والأب هاني مطر وبعض العلمانيين. على طريق القصر. نُصبت خيمة رافقها وحماها الجيش تُقام فيها الصلوات والإعتصامات والإحتجاجات والبيانات. زحله محاصرة والرئيس يُطالب بفك الحصار عنها، والوزان يطالب معه والرئيس والوزير الياس الهراوي وأنا، ولي ابنة اختي الأخت دافيد محاصرة مع الناس على اقدام سيدة البقاع في ميتم الراهبات الشويريات في زحله تحت القصف وقنابل الموت والجحيم. والرئيس يحترم هذا الجمهور، فنسيبه المحترم الأباتي اجناديوس سركيس وكان الرئيس العام للرهبانية اللبنانية المارونية وهو يقدّر الرهبان والكهنة والراهبات ويؤمن بعمل الروح وبالدور العالمي لهذا الصوت وتأثيره في الرأي العام وفي الوجدان العالمي. لكنه يعرف ان الحصار والضغط لهما تغطية عالمية ولو استشهد شباب المقاومة على تلج جبال صنين وهم يغمرون بعضهم بعضاً ليبعدوا البرد عنهم وقد أضاعوا طريقهم في الضباب والرياح والتْلج وهم يحملون الإمدادات ويسلكون طريق الجبل الوعرة للوصول من جهة كسروان الى زحله لدعمها ودعم مقاومتها بالذخائر والرجال والإمدادات على أنواعها. وهذه احدى الصفحات المشرفة البطولية في تاريخ المقاومة من الشمال من دير بلا وكور إلى الأسواق إلى المتن إلى دير القمر إلى ضهر الوحش إلى صنين إلى طاولات البحث والتفكير والتثقيف في لجنة البحوث اللبنانية في الكسليك إلى الصلاة في الكنائس والتعبّد والسهر الى بطولات اسقاط تل الزعتر وسواه من المخيمات الى الشياح وعين الرمانة والسوديكو. القصر يُرجم ولم يعد فيه باب أو نافذة او سقف او حيط من كل طوابقه العليا. ولم يبقَ فيه إلاّ الملجأ المحصّن تحت الأرض. وكم التقيت فيه الرئيس ومعه الوزير فؤاد بطرس والعميد جوني عبده. هذا الرئيس الأنيق المرهف الذواّقة غير حليق الذقن، وربطة عنقه غير محكمة الربط وعيناه تدمعان وهو على حدود البكاء لكثرة الدمار والجنون والإستشهاد في لبنان. كان يعرف ان هذا التمزق لن ينفع وان اللوحة التي قدمها له الرئيس شفيق الوزان وهي تمثل علماً ممزقاً وحمامة سلام تهب لنجدة هذا العلم رمز الوطن، في مجلس الوزراء في الجلسات الأخيرة وقبل رحيل الرئيس سركيس، هي الرمز الحقيقي لصمود الوطن وقيامته.
واسمحوا لي أن اشير هنا ان هذا الرئيس الياس سركيس كان ذواقة فن ولوحات فنية واهمها لوحات عمر انسي وقراءآت هامة أهمها تيار دو شاردان والنبيذ الطيب ومنه نبيذ الرئيس جيسكار دستان St Emilian أو النبيذ اللبناني الفاخر والموسيقى الرائعة.
هذا البعد الثقافي الهام في حياة الرئيس سركيس قدوة أكان في المطالعات والقراءات أو في سماع الموسيقى أم في عشق الفن التصويري أم في تذوق النبيذ والمأكل أم في لبس الثياب واختيار ربطات العنق واحترام لبنان النموذج والرسالة والإختيارات الثقافية والروحية والعيش المشترك الذي هو اساس كياني لوجود لبنان. لكنه كان يعرف عدم قدرته، وان قوّته الكبرى، هي القول لا، ولا، ولا، بعد أن باع كيسنجر لبنان لسوريا وكذلك بعض العرب والأوروبيين واللبنانيين وبقي هو يُقاوم مع بعض المسلمين وبعض اللبنانيين وشباب المقاومة وعلى رأسهم بشير الجميّل. وهذا الرفض أو الممانعة جعله الرئيس الأكثر شجاعةً ومقاومة في تاريخ لبنان.
اللجنة الرباعيّة والبشير المخيف
يوم أتت اللجنة الرباعية الى بيروت طلب مني الرئيس سركيس أن أذهب الى الشيخ بشير وأن أطلب منه أن لا يلبس ثياباً مدنية ويأتي الى القصر بل أن يأتي بثياب المقاومة ويصرخ ويهاجم ويرفض.
وهو كان دائماً يطلب مني في بعض الأمور الخاصةً جداً أن أذهب الى الشيخ بشير لأقول له: يقول لكَ الرئيس، ان لا تترك سلاح المقاومة مهما حاول الجميع نزعه من بين أيديكم لإضعاف المسيحيين والقضاء عليهم. وكان يتبع ذلك قائلا لي لا اريد أن أترك الرئاسة الا وفيها يتعادل المسلمون مع المسيحيين بالرغم من تدهورهم المخيف وفقدان مراكزهم وارزاقهم واراضيهم وهجرتهم. وكان يرفع يديه ويضعهما قبالة بعض: هكذا بالتساوي وبالتعادل يقوم مستقبل لبنان.
وأتى بشير لمقابلة اللجنة الرباعية بثيابه الليلكية الميدانية و«زأر» بوجه اللجنة الرباعية حتى انه حين خرج من عندها قالت اللجنة الرئاسية للرئيس سركيس: يا تعتيرك كيف تقدر أن تتعامل مع هؤلاء الناس. فهزّ الرئيس رأسه وقال الآن عرفتم الصعوبات التي أنا فيها وأتعامل معها! بالحقيقة كان هم الرئيس أن لا يتنازل ويخسر المسيحيون حقوقهم ومواقعهم. فأين هو اليوم موّقع رئاسة الجامعة؟ والأمن العام؟ والخارجية والمالية والعديد سواها من المواقع.
ضرب على التنك لمنعه من النوم
في المؤتمرات: في تونس، في المغرب، في اللاذقية حيث الضغط على الرئيس، الذي يدق ناقوس الخطر، يزداد حتى انهم كما أخبرني مرة في الليل في مؤتمر اللاذقية منعوه من النوم ليرهقوه ويمضي متعباً الى الإجتماع في اليوم التالي كما اراد الرئيس حافظ الأسد. قرعوا له الطبول والتنك حول الفندق حتى الفجر ومنعوه من النوم والراحة والرئيس الأسد كان يمد الحديث مع ضيفه حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، عندها يبدأ بالضغط والمطالبة ليضعف تركيز مفاوضه لرغباته وارادته، كلاعب البوكس، الذي يمطر خصمه بالضربات القاضية، بعد أن يكون أرهقه وأتعبه لينقض عليه وينتصر. لكن كلام الرئيس سركيس بقي كما هو من البداية الى النهاية. رفض جميع المطالب الفلسطينية والسورية. في زمن تفكك جميع المؤسسات والجيش والأرض والناس. كانت ارادة الرفض وشجاعة القول «لا» للضغط السوري والفلسطيني والتعصب الإسلامي هي الجوهرة المقدسة التي حملها الرئيس سركيس بين يديه وهي الوديعة التي سلّمها للشيخ بشير الجميّل يوم انتخبَ رئيساً. علينا الإعتراف بأن وجود رئيس الوزراء، شفيق الوزان المسلم مع الكثير من الوزراء والرجال الشجعان شجع الرئيس سركيس للوقوف بوجه من يريد النيل من كرامة الوطن وعنفوانه.
التاريخ ينصفني
ترك الوطن والدولار بـ 2،50 ليرة لبنانية ويوم كنت اسأله كيف يكون هكذا؟ كان يقول الثقة. الوطن ثقة. الإقتصاد ثقة. وهذا ما يحدث اليوم في لبنان. لم يوّقع اية اتفاقية مع سوريا واعطانا بشير الجميّل رئيساً الذي كان الملاك الثائر ضده والذي اتهمه بأبشع الإتهامات رئيساً. يوماً ما وصلت الى عنده وكان بحالة يائسة وقد عرف انه كُتب على حيطان المنطقة الشرقية بأسرها يا خاين، يا جبان، يا سركيس يا كلب، يا خرى، روح فلّ، حلّ عنّا، يا خاين، يا كلب يا جبان يا ﭙتان Pétain. فقلت له يا نسيبي ما عاد فينا نحمل مسّبات ولا شو عم بصير وشو عم ينحكي وينكتب ضدك قوم تا نروح سوا عالشبانية، وتروك رئاسة الجمهورية. فقال «قعود يا بونا شوي تا اسألك»:
بقديش الخبز؟ فأعطيته السعر. بقديش الرز؟ بقديش اللحم؟ بقديش السكر؟ بقديش الدولار؟ فقط ليرتين ونصّ! قال بكرا بدو يجي يوم ما يعود اللبنانيين يقدرو ياكلوا ويصير سعر الدولار بأكثر من ألف ليرة وبيذكروا انو أنا الرئيس الما خلاّ شعبو يجوع. بدو يجي وقت يا بونا مونس يمسحو اللبنانيين بدموعن شو كتبوا على الحيطان وبدن يعطوني حقي ويبكوا ويترحموا عليي. وإجا اليوم! وأنصف الناس والتاريخ الرئيس الياس سركيس!
اليوم أنصفَ التاريخ الرئيس سركيس. وهذه الندوة التي تقيمها الجامعة الأنطونية فلها الشكر والإمتنان.
كان من أعظم الرؤساء في اصعب الأيام. زيّنه الصمت والصبر والحب والتعالي والرقي.
آخر ليلة كان يريد إلقاء القبض عليَّ
أردتُ أن أودعه ببرنامج على تلفزيون لبنان بعنوان «ويبقى لبنان» وكان جوني عبده مدير المخابرات وفؤاد بطرس وزير الخارجية والياس الهراوي يعلمون بذلك وهو كان يرفض. فأتى إليّ الى تلفزيون لبنان العقيد جوني عبده لتوقيف البرنامج ولأخذي الى عند الرئيس. قلت له لن أذهب. خذ الكاست وأنا عائد الى الكسليك. وتركته وعدت الى الكسليك. عندما وصلت الى الكسليك وصلني تلفون من الوزير فؤاد بطرس يقول لي الرئيس شاهد البرنامج وهو يبكي. هو يشكركَ ويسمح ببث البرنامج «ويبقى لبنان» وتأثراً جداً بما قلت: مبارك مجيئك ومباركٌ ذهابك! وهكذا كان.



خاتمة
أمّا شخصية الرئيس وأثرها في نظرته إلى دوره وصلاحياته وممارسته إياها فهو مطبوع بشخصيته بطابع «الكتاب» الذي أورثه إياه الرئيس فؤاد شهاب أي «بالدستور». ولم يرد مطلقاً أن يتخطى الدستور والقانون والضمير والزهد. وحافظ على مالية الدولة وتوزيعها بالتساوي بالحقوق والواجبات. هو مطبوع في شخصيته بالتعايش واحترام كنوز المكونات الاجتماعية والثقافية والروحية والتاريخية للبنان: تعايش ماروني – درزي، وتعايش مسيحي – إسلامي يطبعه أكثر ما يطبعه انه ابن الإمارة اللمعيّة وابن ضيعته الشبانية وعائلة آل سركيس الموصوفة بالزهد والتجرد والتواضع.
أمّا أهداف العهد المعلنة فكانت أولاً عدم قبول التوطين مهما كلفت الظروف وعدم السماح بقلب المعادلة اللبنانية المسيحية الإسلامية المتوازنة وجعل فريق يسيطر على فريق آخر وهذا ما جعله يسلم الحكم بعده للشيخ بشير الجميّل. وعدم السماح للقوى العربية بنزع سلاح المقاومة اللبنانية والتي كان طابعها مسيحي. وقد نجح في بلوغ هذه الأهداف.
أمّا مرحلة العلاقة بين الرئيس وعهده فكان همه الكبير إنقاذ الوطن وإطفاء النيران المشتعلة التي تدفع الوطن إلى الاحتراق والى التقسيم والى تقليص الوجود المسيحي وفقدان الصيغة اللبنانية الفريدة وهي التي تميز لبنان وتجعل منه السبب الحقيقي لوجوده. وهو ما زال يدق في جميع المؤتمرات «ناقوس الخطر» ولم يسمع له أحد لأن الضغط العربي الإسلامي وضغط ياسر عرفات كان أقوى من محاولات الرئيس العائش تحت القصف أقوى من القناعات المتعلقة بالرئاسة ودورها فهي الحفاظ على الدستور وعلى حقوق طوائفه وعدم المس بالمسلمات والتوازنات التاريخية والسياسية التي على أساسها قام لبنان. فأي سيطرة لطائفة أو لجماعة على أخرى ستدفع بلبنان إلى الثورة والانفجار. لبنان لا يُحكم إلاّ بالتفاهم والحوار وقبول حق الآخرين واحترام حريّاتهم ومعتقداتهم وكرامتهم. لبنان هو بلد التسويات وعلينا أن نقبل إن التسوية هي تنازل متبادل ليكون السلام والابتعاد عن النزاعات التي هي خراب للأوطان. هذه الرسالة آمن بها الرئيس سركيس وعمل ومات لأجلها، خاصة انه لم يعش طويلاً بعد تركه الرئاسة بل ازداد عليه المرض وأنهكه حتى ساعة وفاته. إنه رئيس الديمقراطية التوافقية التي هي السلام الحقيقي للتعددية وللشعوب المتنوعة المعتقدات والتراثات.

«إلى فالنتينوس مع حبي»

شجر اللوز الأبيض
يزهر كل سنة شجر اللوز الأبيض وعليه مكتوب «الى فالنتين مع حبي». يزهر الورد الأحمر وعليه مكتوب «الى فالنتين مع حبي». والثلج ينزل ويد حبيبة اسمها جوليا Julia تفتحت عيناها العميتان على النور وتفتح قلبها على الإيمان وعلى حب يسوع وعقلها على المعرفة تكتب على الزهر وعلى الشجر «إلى فالنتين مع حبي». القاضي استيريوس Asterius عنده ابنة وحيدة جميلة عمياء. والأمبراطور كلوديوس الثاني (Claudius II) يضطهد المسيحيين انها سنة 269.
كل سنة تزهر شجرة اللوز ويعيد زهرها الأبيض قصة حب وايمان ونور. من يأخذ بنا الى ينبوعية العفة والحكاية والرواية والأسطورة والميتة والخرافة أو الدهم سمّها كما شئت انها في قلوب الناس وهم يعيشون الحب ويجددون ولادته مرة في السنة كنذر الرهبان والمتعبدين. البعض يقول انها تجارة رابحة لكنها بالحقيقة ذكرى السهم الذي الذي أصاب به القلب الإله كوبيدون Cupidon وهو محجوب العينين فأدماه والى اليوم هو ما يزال جرح العشاق وجرح الطيور المهاجرة الى الحب والمحترقة بالنار والعنبر لتعود الى الحياة مضمخة بالبخور والنور.
ماذا تقول القصة
الكاهن الروماني المسيحي فالنتينوس كان يعيش في زمن الأمبراطور كلوديوس الثاني الذي منع زواج الجنود والعسكر عند الرومان كي لا يضعفوا زمن الحرب والقتال. وكان القديس فالنتينوس يعمدهم ويعطيهم سرّ الزواج ايماناً منه بالحب والإنجاب وقداسة الحياة والعائلة. وكان يبشّر ويعلّم ان الإله الواحد الحقيقي والحب الحقيقي، والخلاص الحقيقي هو يسوع المسيح وله تقدّم القرابين والصلوات.
فألقى الأمبراطور القبض على فالنسيوس وأتى به إلى أمامه وأمره بالإعتراف وتقديم البخور للآلهة. فأخذ فالنتينوس يبشّر بالإله الواحد وبيسوع المسيح ويقول له ان آلهته هي حجارة بكماء وأصنام لا فعالية ولا قوّة خلاصيّة لها. فأمر الأمبراطور بضربه وسحق عظامه بالعصي الجافة وبسلخ جلده وأسلمه الى القاضي أستيريوس Asterius. كان للقاضي أستيريوس ابنة وحيدة جميلة عمياء اسمها جوليا وهي في سن الثالثة عشرة. وكان استاريوس يحب ابنته ويسهر على رعايتها ويتفانى في تربيتها وتثقيفها. وقد لاحظ ان السجين فالنتيوس انسان مثقف عالم مؤمن ويصلّي فطلب منه أن يعلّم ابنته الفلسفة والرياضيات والفنون والإلهيات. ففعل وبالوقت نفسه كان يحدّثها عن يسوع وحبه.
بعد مدة طلبت جوليا من فالنتينوس أن يعمّدها. فخاف وقال لها ان الأمبراطور سوف يقتلك إذا عرف بإيمانك وسيقتل والدك ايضاً. فالحّت عليه قائلةً: لا يهمني موت الجسد فأنا أحب يسوع. أطلب إليك أن تعمّدني. فعمّدها باسم الآب والابن والروح القدس والماء فانفتحت عيناها على الفور بعدما انفتح قلبها على الإيمان وعقلها على المعرفة.
فسألها ابوها كيف حدث ذلك؟ فقالت له أن فالنتينوس علمني حب يسوع والإيمان به وبنوره عندما علمني نور المعرفة. فآمن الوالد القاضي وأمن أيضاً السجان وعائلته. عندما عرف الأمبراطور بالقصة أتى بفالنتينوس وقطع رأسه فدفنته جوليا في الحديقة وزرعت على قبره شجرة لوز ووضعت على قبره باقة ورد مكتوب عليها «الى فالنتينوس مع حبي» وصارت كل سنة تضع على القبر باقة من ورد ومن زهر اللوز الأبيض ويكتب قصة حب انساني وإلهي، نور ايمان ونور عينيها. وهكذا يروي كتاب السنكسار أي حياة القديسين في الصفحة 49 قصة القديس فالنتينوس:
السنكسار وتذكار الشهيد والنتينوس الكاهن
أصل هذا القديس من روما، قد اشتهر بغزارة علومه وفضائله الكهنوتية وشديد غيرته على خلاص النفوس. فقبض عليه الملك كلوديوس الثاني وطرحه في السجن مقيّداً بالسلاسل. ثم أخذ يتملَّقه ويلاطفه ليترك الإيمان المسيحي ويعبد الأصنام وقال له:
«لِمَ لا تكون صديقاً لنا فنرفع منزلتك، بدلاً من أن تكون عدوًّا فنسخط عليك؟» فأجاب بكل جرأة: «لو كنت تعلم، أيها الملك، أنَّ الله الذي خلق السماء والأرض هو إله، يجب على كل خليقة أن تحبه، لكنتَ تسعد أنت ومملكتك أيضاً». فسأله أحد القضاة الحاضرين: «ماذا تقول في المشتري والمّريخ؟» فأجاب: «تماثيل صنع أيدي البشر. وإنها، حسب اعتقادكم آلهة شهوات وملاذ بدنية لا خير منها يرجى». فصاح القاضي: «لقد جدّف على الآلهة والحكومة!» فأمر الوالي أن يتسلَّمه القاضي استيريوس ليعاقبه على تجديفه. فأخذه هذا إلى بيته. وكانت ابنته قد فقدت بصرها منذ سنتين. فقدمها أبوها الى والنتينوس الكاهن، يا نور العالم، أنر أمتك هذه» وللحال انفتحت عيناها وأبصرت النور! عندئذ آمن استيريوس هو وامرأته فعلّمهم الحقائق الايمانية وعمّدهم جميعاً. فعرف الملك بذلك فقبض على استيريوس وأهل بيته وأنزل بهم أشد العذابات حتى أماتهم ففازوا بإكليل الشهادة. أمّا والنتينوس فطرحه في السجن مدة طويلة وبعدها ضربوه بعصي جافية حتى تكسرت أعضاؤه وتفجرَّت دماؤه وهو صابر يشكر الله على نعمة الإستشهاد التي نالها بقطع الرأس سنة 368. صلاته معنا. آمين.
لماذا 14 شباط؟
عند اليونان: إن 14 شباط هو يوم بدر مكتمل. ونحن نعرف انه لا يزرع شيء في الأرض في زمن نفصة القمر بل كل شيء يزرع بعد سقوط الجمرات الطبيعية ومع القمر المكتمل البدر، 14 شباط هو عيد الخصب والحياة وعيد الحب. زمن القمر البدر تحمل الطبيعة في أحشائها حرارة الخصوبة. وفي هذا النهار يعيّد اليونان عيد الإله زوس Zeus إله الآلهة والآلهة هيرا آلهة الخصب والتي أنجب منها زوس ابنه هرقل Hercule.
عند الرومان: أما في روما فكان عيد الحب يقع في 14 شباط. وفي نفس الوقت كان هذا العيد يسمى Lupercalia لوبركاليا لأنه ينبع من الإله Lupercus لوبركوس إله الخصب والحياة. وهذا الإله يرمز اليه برجل يلبس جلد ماعز. وكان الكهنة الوثنيون في هذا العيد يذبحون الماعز ويأكلون لحمها ويسكرون ثم يقومون بالركض في الشوارع عراة ويدوروا في تلك الشوارع والنساء يلمسنَ جلد الماعز وخاصة الصبايا طلباً للخصوبة والزواج والبنين. وهذا العيد هو عيد مخصص للعازبين الطامحين الى الزواج والحب.
في الطبيعة وفي فينيقيا: في هذا العيد تتزاوج الطيور وبعض الحيوانات. ولهذا فإن فالنتينوس يرسم حاملاً عصفوراً. أو يُرسم الإله كوبيدون إله الحب وهو معصوب العينين وهو يرمي سهامه الى القلوب ليجرحها بسهم الحب الذي لا يشفى. أمّا إله الجمال والحبّ أدونيس فهو يعود مع شقائق النعمان الحمراء، الى الحياة والجمال، بعد أن أمضى الموت في ليالي الشتاء، زهور شقائق النعمان الحمراء ترمز الى دم أدونيس وقد تدفّق حياة في الأرض وفي الشجر والمياه وهو في الحب والحياة والخيال والجمال. وتبدأ المسيرة على ضفاف النهر من جبيل إلى افقا بالرقص والسكر والحبّ والتزاوج من مصب النهر حتى مغارة أفقا وهذا ما كان يسمى بـ «الأدونيسيات».
معنى العيد
لذلك أتى عيد القديس فالنتينوس «يمسحن» هذه الأعياد. «يعمدها» بالروح المسيحية ويعطي المعنى الحقيقي للحب والزواج. المسيحية عيّدت عيد هذا العيد في 14 شباط وجعلت العيد المسيحي لاستشهاد فالنتينوس وأعطت معنى آخر للعيد الوثني الجسداني الشهواني البدني ألا وهو عيد الحب الطاهر النقي الذي يكون بين الأزواج والعشاق ليصل بعدها الى حب الله.
ماذا تقول الآثار؟
هل هذا العيد خرافة، حكاية، وهم أم ان له أثر واقعي حقيقي؟ علم الآثار يقول انه وجيد في دياميس روما Catacombes ومن عهد الأمبراطور كلوديوس الثاني. في 14 شباط سنة 697 بني كنيسة على اسم القديس الشهيد فالنتينوس وفيها ذخائر الشهيد. وفي كنيسة الشهيدة Praxède قرب كنيسة مريم العظمى في روما موجوده بين عظام الشهداء عظام الشهيد فالنتينوس وقد بدّل الرومان اسم الآلهة Februata Juno. باسم الشهيد فالنتينوس
وهناك في روما «بوابة الشعب» Porta del Popolo دعيت باسم «بوابة فالنتينوس».
أمّا البابا يوليوس الأول فقد أمر ببناء كنيسة على اسم الشهيد فالنتينوس قرب جسر Porte Mole . أمّا البابا جيلاسيوس فهو الذي أمر بأن يكون عيد القديس فالنتينوس في 14 شباط سنة 496م. وفي سنة 1493 فقد ظهر أول كتاب مطبوع تحت اسم حوليات نورمبرغ Nuremberg chronica
أين هي الذخائر المقدسة اليوم؟
- محفوظة هي الذخائر مع غيرها من ذخائر شهداء القرن الأولى للمسيحية، في كنيسة الشهيدة Santa Praxede قرب كاتدرائية مريم العظمى في روما.
- في القرن التاسع عشر أهدى البابا غريغوريوس السادس عشر ذخائر القديس فالنتينوس الى كنيسة الراهبات الكرمليات في دبلن في ايرلندا حيث تحولّت الكنيسة مزاراً كبيراً يتقاطر اليه الكثيرين ويحج اليه العديد من الناس والعائلات.
- في سنة 1847 حصلت كنيسة Saint Pierre du Chemin على ذخائر القديس فالنتينوس.
- في 25 تشرين الأول 1868 حصلت كنيسة في منطقة الجارد Roquemaure في فرنسا على الذخائر أيضاً.
- أمّا سنة 1969 فلم يعد سان فالنتينوس في السنكسار الروماني لأن الكثير من الأساطير أحاطت بالاسم.
قصة حب لم تنتهِ
ومع هذا بقيت رسائل الحب مستمرة بين الناس ولن يوقف حب الناس لله وحبهم لبعضهم البعض. انها قصة الأمانة والإستشهاد والإيمان يوجه السيف والعذاب والموت وسيزهر اللوز كل سنة ويكتب «الى فالنتينوس مع حبي». فكيف أصبح عيد هذا القديس عيداً للعاشقين فقط وللمغرومين وليس عيد الأمانة الزوجية والحب الحقيقي بين العاشقين والذين يؤسسون عمرهم على حب الله والعيش بحسب وصاياه، فتكون حياتهم نشيد حب دائماً يكتبون فيه كل ما أزهر اللوز ومرّت الريح وأنشدت العصافير وتفتحت العيون للنور والعقل للإيمان والقلب لحب الله. «الى حبي مع حبي»
«إلى فالنتينوس مع حبي» فهل ضاعت اليوم الحقيقة والأسطورة وتحوّل معنى العيد الى عيد لا معنى له بعد أن غرقت الحقيقة في الأوهام والنسيان؟
* * * * * * *